بالأمس، كانت مناسبة أذكرها في طليعة الذكريات العزيزة على قلبي بكل بهجة وتقدير ووفاء، عنيت بها ذكرى ميلاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي غيّبه المجرمون، وهو في عز عطائه، فسيرته الباهرة في تولّي مسؤولية الحكم لسنوات حافلة بجملة من أعمال البناء والتطوير والتحديث، تجلّت وتمثّلت في جهوده وإنجازاته الضخمة في الحقل السياسي والإقتصادي والتربوي والخيري والإنساني، وقد قلبت لبنان رأسا على عقب، وأخرجته من مآسي الحروب الداخلية، وأطلقت نجاحه المذهل في دنيا السياسة والبناء والإعمار.
بدأت معرفتي به… على التلفون، وكان مقيما في محطة وجوده وأعماله في السعودية، حيث منَّ الله عليه بالنجاح الباهر والثروة الطائلة، وكنت أتابع في الإعلام أعماله ومنها آنذاك وقبل أن تُعهد إليه مسؤولية رئاسة الحكومة اللبنانية، كان في بداية عودته الثابتة إلى لبنان، قد أطلق الثورة التربوية من خلال مؤسسته الوطنية التي أنشأها آنذاك، فكانت عملا عملاقا أرسل من خلاله آلافا من الشباب اللبناني من الجهات والفئات والأديان كافة، ومن أبناء اللبنانيين المنتمين إلى الطبقتين المتوسطة عموما والفقيرة خصوصا، فشاركهم في حلمه الخاص المتمثل بالسعي بكل السبل لإنهاض شباب وطنه من مطبات الحرب ودمارها، وحقق بذلك حلم الشباب اللبناني بتحصيل العلم في أرقى وأنجح الجامعات الكبرى الممتدة في العالم الغربي والأميركي، وسريعا ما مرّت السنوات بعد ذلك، فتخرّجوا من تلك الجامعات بأعلى مراتب الإختصاص المختلفة، ومنهم من تبوأوا مراكز عملية وإدارية وقيادية في أعلى المستويات. كتبت آنذاك، مقالا في أحدى وسائل الإعلام أشْدتُ فيه بمبادرات الرئيس (الذي لم يكن بعد قد أصبح رئيسا)، وقد تلقيت اتصالا منه آنذاك، بدأ بالتحية وبتعريفٍ بنفسه ببساطة محببّة: أنا رفيق الحريري، وشكرني على المقال ومضمونه وأسهبت في شكره على مبادراته، إلى أن التقيت به صدفة إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في منزل المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد الذي سبقه إلى دنيا الحق والشهادة، وكان هذا اللقاء به هو الأول بين الرجّلين، ودار الحديث فيه حول مبادرة جديدة كان قد أطلقها لإعادة إعمار بيروت التي كانت خارجة لتوّها من أهوال الاجتياح الإسرائيلي ودماره، وبصدفة متناهية، طلبت منه أن يستمع ظهر ذلك اليوم إلى تعليقي السياسي الذي كنت أبثه يوميا من إذاعة لبنان، وقد كان موضوعه يدور آنذاك، حول تلك المبادرة بالذات، ثم مرّت الأيام وحفظني الرجل الكبير بذاكرته العجيبة والمذهلة، والتي كانت دون شك جزءا من طاقاته وإمكاناته، يسّرت له التغلغل في دنيا المال والأعمال، وفي أعماق المجتمع اللبناني كلّه، وخلقت له شبكاتٍ واسعة في حقل العلاقات العامة التي مكنته من دخول بيوت الناس وعقولهم وقلوبهم، ببسمته الدائمة، وعلاقاته المبسّطة والعفوية، والقادرة بكفاءة نادرة على اكتشاف المتفوقين والنشطاء في شتى حقول الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية. كان في لقاءاته العامة والخاصة، وبسرعةٍ عجيبة ونظرةٍ ثاقبة، يكتشف من يلاقيهم من المواطنين، ولو في لقاءٍ عام واسع الحضور، ويصنفهم من خلال مداخلاتهم ومناقشاتهم، ومن ثم يعاود الإتصال بمن التفت إليه نظره وتقييمه، وهكذا تكونت لديه جملة من فرق العمل مختلفة المواقع والتخصصات والمؤهلات، واكبته في مسيرته السياسية والاجتماعية طوال السنوات التي سبقت استشهاده، ولاحقا، شرفني الرئيس الشهيد بمبادراته تجاهي، ورشّحني لكثير من المواقع العامة ومنها ترشيحي على لائحته الانتخابية عام 1996، وهي لئن لم تكتمل تنفيذا آنذاك لأسباب لها علاقة بالنظام السوري، فقد عاود ترشيحي لانتخابات عام 2005 بعد أن دخلت علاقاته بذلك النظام القاتل، في مرحلة المجابهة والصدام التي أدت إلى استشهاده، ولم يتم خوضه لتلك الانتخابات حيث اغتالته يد الغدر الوحشية، وكان هذا الاغتيال بالذات سببا لتلك الانتفاضة اللبنانية الشاملة التي أدت إلى الانسحاب السوري الكامل من لبنان وإلى نشوء حركة 14 آذار، التي لم تلبث أن تداعت وتفرق سياسيوها على النحو المؤسف الذي حصل لاحقا والذي كان له أثره السلبي على سلامة الموقف الوطني في شتى الحقول والميادين، ولم يبق من تلك الحركة إلاّ روح 14 آذار، وفقا لما يذكره بعض أطرافها، تلطيفا منهم لآثارها السيئة التي تطورت في سوئها إلى الحدود التي وصلنا إليها حاليا وخلاصتها تحقيق غلبة للدويلة على الدولة، وسيادة حكم السلاح على حكم الوطن الواحد والدولة الممسكة بكل شؤون الحكم وشجونه.
بالأمس كانت ذكرى مولد ذلك الإنسان العظيم بمواقعه ومواقفه التي احتلها في الداخل وفي الخارج الممتد إلى أقرب وأقصى دول العالم.
وهو نفسه ذلك الإنسان الذي ظل يفاخر بنشأته الشعبية المتواضعة وبانتمائه الأساسي إلى طبقة المكافحين والعصاميين، الذين أفلحوا من خلال تجربة عملية فريدة من نوعها واقتحاماتها ونجاحاتها المتتالية، وليس سهلا على الإطلاق على مكافحٍ مثله، هاجر إلى المملكة العربية السعودية ساعيا إلى لقمة عيش شريفة ومستقبل أفضل، أن يصل في المملكة إلى ذلك الموقع العملي والاجتماعي والسياسي الذي احتله، وليس من السهل على الإطلاق، أن يقفز من «مملكته» التي أسسها لنفسه من خلال موقعه في المملكة العربية السعودية، إلى المكانة التي أصبح فيها في أكثر من موقع دولي، سواء في عالم المال أم في عالم السياسة، وصولا إلى علاقاته بأعلى المراجع السياسية التي قادت العالم في مراحل حياته، من دون أن نغفل قفزته المباركة والمخطط لها طويلا من قبله إلى بلده لبنان، ذلك الوطن الذي كان واستمر حتى استشهاده، قرّة عينه، وهدفا وهبه ما منَّ الله به عليه من حياة زخرت بالعطاء والكرم المذهل في كل الميادين فكان رئيسا وقائدا حقا أعطى لوطنه دونما حدود، وحتى تاريخ الاستشهاد.
بعد أن غادرنا إلى دنيا الحق، يكفي أن نمعن النظر في ما تركه من ثمار الإنماء والإعمار وبناء الحجر والبشر، وتطوير مذهل للوضع الإقتصادي الذي كانت الحرب الداخلية قد دمرته فيما دمرت من مواقع النجاح والإزدهار والتفوق، هذا الكلام في ذكرى ميلاد هذا الرجل الشهيد، هو وقفة تقدير ومحبة ووفاء، في ذكرى رجل قائد ورائد، غيّبه الإجرام والمجرمون، وواكبته العقول والقلوب.