في الداخل، الأبواب موصدة. كذلك في الخارج. رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في قطيعة جديدة اختلط فيها الشق السياسي بالشق الشخصي، ولا أحد يعرف متى تنتهي وكيف؟ أما العواصم المعوّل على دور لها لوقف الانهيار، فتكتفي ببيانات الإعراب عن القلق
منذ الاجتماع الثامن عشر بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري في 22 آذار، دخل تأليف الحكومة في سبات عميق كأن لا رجعة منه، ولا خروج من كهفه. في اليومين التاليين، تلاحقت تحركات دبلوماسية أوحت بتدارك المأزق الحكومي الناشب بين الرئيسين، سرعان ما تبخّرت التوقعات والآمال سريعاً. غداة الاجتماع الثامن عشر، استقبل رئيس الجمهورية في 23 آذار السفير السعودي وليد البخاري. في اليوم التالي، التقى البخاري ونظراؤه: الأميركية دوروثي شيا والفرنسية آن غريو والكويتي عبد العال قناعي دونما التوصل الى بيان، من غير أن تنبثق عنهم أفكار جديدة. من ثم تلاحقت في الساعات التالية زيارة بعض هؤلاء للرؤساء، من غير إحداث أي صدمة.
لم تفضِ الحركة الواسعة تلك سوى الى تأكيد المؤكد للسفراء، المعنية حكوماتهم بالأزمة اللبنانية. كذلك الأمر بالنسبة الى الأفرقاء اللبنانيين، الحائرين الباحثين عن مخارج مستعصية:
1 – في لقاء السفراء الأربعة، طرحت غريو ــــ أكثر المحفّزين على عقده ــــ اقتراحاً يقضي بأن يتولّوا مناقشة موقف موحّد يُتفق عليه، وينبثق منهم، يُوجَّه الى حكوماتهم كي تتبنّاه. رحّبت شيا وقناعي به، وتحفّظ عنه البخاري مسجلاً ملاحظة مفادها أنه يشاطرهم تشخيصهم المشكلة اللبنانية، والحاجة الى حكومة في أسرع وقت تخرج البلاد من مأزقها، وتباشر إصلاحات بنيوية فوراً، بيد أنه لا يوافقهم الرأي على اتخاذ موقف موحّد خشية تحوّله الى مبادرة في ذاتها ملزمة لدولته، في وقت لا تبدو فيه الرياض مستعدة للانضمام الى أي مبادرة حيال لبنان في الوقت الحاضر، ولا يعدو اهتمامها بالشأن اللبناني سوى إسداء النصح وتأكيد المواقف المعلنة سابقاً. أفضى ذلك الى خروج اجتماع السفراء بلا نتائج ملموسة سوى إسهابهم في المناقشة، واتفاقهم على الإدلاء بمواقف منسجمة في ما بينهم حيال القواسم المشتركة التي يقاربون بها الوضع اللبناني.
2 – نُظر الى اجتماع السفراء الأربعة على أنه أقرب الى مرجعية رباعية محدثة، معنية بالشأن اللبناني في محطته الحالية، الموشكة على الانهيار الشامل. لم تعد الفروق في ما بينهم، في مقاربة ما يجري، ذات مغزى بعدما تقاربت وجهات نظرهم الى حد بعيد. يلتقي السعوديون والأميركيون على ضرورة تأليف حكومة لا وجود فيها مباشراً أو غير مباشر لحزب الله، بينما يجري الفرنسيون مراجعة جدية لتعويلهم على الحزب مذ لمسوا أنه لم يترجم تعاونه مع المبادرة الفرنسية تبعاً لما وعد به، على نحو يزيل من طريقها العراقيل. مع ذلك، لم تصل المراجعة الفرنسية الى حد التطابق مع الموقفين السعودي والأميركي، وهذان بدورهما غير متطابقين، تميّز ما بينهما فروق ضئيلة مرتبطة بالتشدد حيال وجود حزب الله في الحكومة الجديدة. لم يصل تذمّر الفرنسيين من الحزب الى حد استبعاده تماماً عن أي دور في الحكومة الجديدة، من غير أن يتمثل بها مباشرة ما دامت ستكون من مستقلين، إلا أن دعمه إياها عامل مهم لمدّها بفاعلية العمل والقرارات.
3 – ليست مصادفة أن ينتهي اجتماع البخاري وشيا برئيس الجمهورية بتلاوتهما بياناً مكتوباً اُعدّ سلفاً، وحاز موافقة وزارتَي خارجية البلدين، كي تُوجّه الرسالة وتُقرأ بوضوح وسهولة. كلاهما أبرزا عدم وجود أي استعداد للرياض وواشنطن للتدخل في الشأن اللبناني، بل الاكتفاء بممارسة صغوط عبر تكرار المواقف المعلنة من المواصفات التي يطلبانها في الحكومة الجديدة. يتلاقى ذلك مع معلومات واردة من واشنطن، تتحدث عن اجتماع عقد الأسبوع الماضي لخليّة لبنان في وزارة الخارجية الأميركية، هو الأول من نوعه في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، لدرس الموقف الواجب اتخاذه من الوضع اللبناني. وبحسب المعلومات تلك، فإنّ الخليّة تحتاج الى شهر حداً أدنى كي يتبلور تصور لها. حتى ذلك الوقت، أنيط بالسفيرة في بيروت متابعة هذا الملف تبعاً للمعطيات المتوافرة لديها وتعليمات الإدارة.
طرحت غريو اقتراحاً بتصوّر مشترك تحفّظ عنه البخاري
على أن الأهم في ما ضمره موقفا الرياض وواشنطن، أنهما يحددان موقفيهما من الحكومة الجديدة بعد تأليفها، ومدى التزامها مواصفات المبادرة الفرنسية، يضاف إليها شرطا هذين البلدين، وهو خلوّها من أي تأثير لحزب الله كلياً أو جزئياً في صفوفها. لعل الأبلغ في ما أتى البخاري على ذكره في بيانه المكتوب، التذكير ــــ من أمام باب رئاسة الجمهورية ــــ بالقرارين 1559 و1701 المعني بهما حزب الله مباشرة، والأكثر إيذاء له، ما أفصح مداورة عن أن وجهتَي نظر رئيس الجمهورية والسفير السعودي على طرفَي نقيض.
في المقابل، موقف باريس أكثر مرونة، وإن بدت أكثر صرامة في تأنيب المسؤولين والقيادات اللبنانية، والتشهير بسمعتهم وفسادهم، والتلويح بعقوبات عليهم. واقع الأمر، لم يتبقّ من المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون من قصر الصنوبر في الأول من أيلول سوى عنوانين فقط، هما حكومة جديدة والولوج الى الإصلاحات. ما بات عليه مسار التأليف، وضع المبادرة في مقلب آخر تماماً: لم تُسمِّ الحريري، غير الاختصاصي وغير المستقل، رئيساً للحكومة بل تحدثت عن مواصفات عثرت عليها في السفير مصطفى أديب، فرشّحته ودعمته، قبل أن يسقطه الحريري والرؤساء السابقون للحكومة. تحدثت عن حكومة مستقلين غير حزبيين، فإذا لائحة الحريري توزّر مَن سمّتهم كتل وأحزاب سنّية وشيعية ودرزية، فيما كان الفرنسيون قد رشّحوا بأنفسهم في مطلع المبادرة وزراء يعرفونهم كي يحلّوا فيها من ضمن المواصفات التي طرحوها. ما لبث أن بدّدها الكلام عن حكومة اختصاصيين على صورة حكومة الرئيس حسان دياب.
4 – ليس البيان الذي أدلى به السفير السعودي في قصر بعبدا سوى نسخة متطابقة عما كان قد صرّح به بعد مقابلته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في 19 شباط الفائت، بتأكيده ضرورة تطبيق اتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. وهي إشارة إضافية الى عدم الرغبة في التدخّل في الشأن اللبناني، كما في تأليف الحكومة، سواء ترأّسها الحريري أو سواه. لذا لم يبصر البعض زيارة البخاري لرئيس الجمهورية على أنها رسالة سلبية الى الرئيس المكلف، رغم انقطاع التواصل المباشر بينهما واستثنائه من الزيارات السياسية التي يقوم بها السفير. ما سمعه منه الراعي في اجتماع 19 شباط، أن المملكة جاهزة لكل مساعدة فور تأكدها من أن الحكومة الجديدة ــــ عندما تتألف ــــ يمكن الركون إليها والثقة بمواصفاتها، مختلفة تماماً عن كل الحكومات التي سبقتها.