كنت أنوي الكتابة عن 5 يونيو (حزيران) 1967 .عن نصف قرن شهد انزلاقنا من النكسة إلى النكبة الكبرى التي نسبح فيها الآن. نكبة أشد هولاً من تلك التي أصابتنا بفعل اغتصاب فلسطين. كنت أنوي الكتابة عما فعله «القادة التاريخيون» تحت لافتة الوحدة العربية وتحرير فلسطين. وكيف انتهت مغامراتهم بتبديد دول وشعوب وثروات. وكيف اغتالوا كل فكرة واعدة وكل نافذة وتركوا الناس عراة أمام المتعصبين الحالمين بإعادة الأمة إلى كهوف التاريخ.
كنت أنوي الكتابة عن وهم الزعامة العابرة للحدود ونهايته الباهظة. وكيف ساهم المستبدون في كشف هشاشة بلدانهم. وكيف تهاوت جمهوريات الخوف أمام الرياح. ووحشية الأنظمة التي قامرت بالأرض ومن عليها. وعن الملايين الموزعين في مخيمات اللجوء وأطفالهم الجائعين على رغم حلول موعد الإفطار. وعن السجناء الذين تعفنوا في الزنزانات. وعن المحققين الذين يتسلون بمصادرة أسنان المواطنين وأصابعهم. وعن محارق الجثث وتذويب الجيوش لمصلحة الميليشيات.
وقلت أستأنس بآراء ثلاثة من الأصدقاء حول بصمات النكسة في تجاربهم. قال صديقي الليبي إن الحاضر أخطر بكثير من الماضي. وإن الصغار الذين شهدوا مسلسل الحروب الأهلية التي فجرها «الربيع العربي» سيتحولون قنابل موقوتة في الجسد العربي. وإن خيبة العربي العاقل والمعتدل اليوم تفوق بأضعاف خيبة من اكتشفوا قبل نصف قرن أن مجريات الحرب تناقض ما بثته إذاعة «صوت العرب» وما رواه مذيعها الشهير أحمد سعيد.
قال الصديق العراقي إنه أصيب بإحساس عميق بالحزن والخسارة وعدم التصديق المشوب بالوهم. وإن شعوراً بالتحدي رافق تلك المشاعر٬ مما دفعه إلى الاندفاع إلى الشارع للمشاركة في التظاهرات على رغم كونه متوارياً منذ فراره من السجن. وتحدث عن دور «البعث» في اضطهاد كل رأي آخر وعن المذابح والاعتقالات وهجرة الكفاءات.
أما الصديق السوري فقد كان مقتضباً. قال إن أوجاع نكسة 1967 أقل بكثير من أهوال النكبة الحالية.
وقلت أكتب صباح الأحد عن النكسة التي تحولت نكبة. تغيرت الحسابات. حين تسقط لندن في الطقس الجميل يتضاعف سحرها ويرتدي ليلها غلالة لا تبارى. هكذا غادرت المكتب ليل السبت الأحد إلى قلب المدينة علّني أسرق شيئاً من الليل الربيعي الذي يتسم بزيارات قصيرة وسريعة.
كان واضحاً أن الناس يحتفلون بالطقس الجميل. هذه عادات المدن الطبيعية التي ودعت أمراض الحروب الأهلية وباتت تعبر عن رضاها أو غضبها عبر صناديق الاقتراع٬ وهي ستفتح الخميس المقبل. فجأة بعد العاشرة دوت في الشوارع أصوات سيارات الشرطة وسيارات الإسعاف. وبعد حفنة دقائق تأكد أن المدينة مستهدفة من قبل ذئب متوحد أو حفنة من الذئاب. وانتشرت على الوجوه ملامح صدمة عميقة٬ ذلك أن دماء ضحايا التفجير الإرهابي في مانشستر لم تج َّف بعد.
حين نقلت الهواتف أخبار الدهس والطعن٬ بدأ رواد المطعم في اختصار إقامتهم. راودني أنا العربي شعور غريب بالذنب. كلما وقع حادث من هذه القماشة نتمنى في البداية ألا يكون المنفذ عربياً أو مسلماً .لكن الوقائع غالباً ما تسفه تمنياتنا ذلك أن هذه الممارسات الفظة صارت حكراً على العالم الذي ننتمي إليه.
راودتني في الحقيقة رغبة في الاعتذار. لنترك المجاملات جانباً . هذه البلدان الأوروبية التي استقبلت ملايين العرب والمسلمين الهاربين من الظلم أو الفقر أو اليأس كانت في الحقيقة أرحم من بلداننا. سعت إلى إدماج الوافدين في مجتمعاتها واقتصاداتها لكنها سلمت لهم أصلاً بحق الاختلاف واحترمت معتقداتهم. أعطت هذه البلدان للوافدين مساعدات من جيب دافع الضرائب ومنحت أولادهم فرصة الحصول على تعليم عصري. أقول ذلك لأنني رافقت من قرب كيف انهمكت ألمانيا باستقبال اللاجئين السوريين الذين أعرب واحد منهم بعد رحلته في «قوارب الموت» عن سعادته بالوصول إلى بلد يعثر فيه على ثلاث وجبات يومياً.
المأساة مروعة فعلاً. تيسر للفكر الظلامي أن يستولي في العقود الماضية على عقول وكتب ومنابر. فكر لا يعترف بالآخر المختلف ويص ُّر على مسح ملامح الآخرين أو قتلهم. فكر تستفزه الشوارع المضاءة. والمناسبات الثقافية. وحرية التفكير والإبداع. وحرية البحث العلمي وطرح الأسئلة المعقدة. فكر يعتبر كل مختلف أو مخالف عدواً يستحق الدهس أو الطعن أو الذبح.
وأخطر ما في هذه المأساة هم أولئك الذين يبحثون للمرتكب عن أعذار وتحت ذريعة ما ارتكبته هذه الدولة أو تلك في التاريخ٬ كأننا نحن لم نرتكب. لم تعد المسألة تحتمل التبرير أو الصمت. الأضرار التي يلحقها الإرهابيون بالغرب أقل بآلاف المرات من الضربات القاتلة التي يوجهونها إلى بلداننا. لهذا على العربي والمسلم أن يحسم أين يقف. من أجل بلاده ومن أجل أحفاده. المعركة الشاملة ضد التطرف يجب أن تكون البند الأول في كل عاصمة عربية أو إسلامية. من دون كسب هذه المعركة سنتابع انحدارنا نحو الجحيم. لا يحق لنا أن نعاقب العالم بهذه الطريقة. إصرار سفراء الظلام على ارتكاباتهم سيلحق عاجلاً أم آجلاً أفدح الأضرار بالجاليات العربية والإسلامية وكذلك بالعالم الذي وفدت منه.