تنفس اللبنانيون الصعداء في دول مجلس التعاون الخليجي مع عودة سفيري السعودية والكويت إلى بيروت، وذلك بعد أشهر من الهواجس والقلق من مضاعفات الأزمة التي عصفت بالعلاقات اللبنانية ــ الخليجية في الفترة الأخيرة، ليس من باب الخوف على وجودهم وأعمالهم هناك، وقد سمعوا ما يكفي من تطمينات، بل خشية أن يتحول الغضب السعودي خاصة، والخليجي عامة، إلى قطيعة خليجية مزمنة مع لبنان.
لا داعي للقول أن عودة السفيرين وليد بخاري وعبد العال القناعي أثارت موجة عارمة من الإرتياح في الأوساط اللبنانية، الرسمية والسياسية والشعبية، لأن هذه الخطوة التي طال إنتظارها، تحمل بوادر إنفراج في أفق العلاقات الأخوية، وتمهد لإعادة مسيرة التعاون والتفاهم إلى مسارها الطبيعي، مع كل ما يعني ذلك من رفع كل الإجراءات الإستثنائية التي تم إتخاذها تجاه لبنان عشية إندلاع الأزمة، لا سيما رفع الحظر المعمول به تجاه الصادرات اللبنانية.
ولكن عودة السفيرين لا تعني، ولا يجب أن تعني لأهل الحكم خاصة، أن الأزمة مع الدول الخليجية قد إنتهت، وأن قطار المساعدات السخية والدعم الكبير في طريقه إلينا، على النحو الذي كان يحصل في السنوات الماضية. لا بد من الإدراك الكافي بأن المعطيات السياسية اللبنانية إختلفت، وأن الذهنية في أوساط النخب الخليجية الحاكمة قد تغيّرت جذرياً، وأن الأمور أصبحت تخضع لمعايير أكثر علمية، وأن المساعدات تُقرر نتيجة دراسات واقعية، تأخذ في الإعتبار قواعد الجدوى الإقتصادية، ومبادئ الحوكمة والشفافية، خاصة في بلد فاحت منه روائح فساد المنظومة الحاكمة إلى آفاق العالم، و خسر حكامه ثقة القريب والبعيد بنزاهتهم.
لم يعد يجدي النقاش حول الملابسات التي أحاطت بقرار سحب السفراء والقطيعة الخليجية مع لبنان، حيث البعض مازال يعتبر أن «الصدمة» الخليجية كان لا بد منها ليدرك المسؤولون اللبنانيون مخاطر إستمرار «التطنيش» المتعمَّد للتهجمات السياسية على القيادات الخليجية، والتجاهل المستمر لمخاطر عمليات تهريب المخدرات المتصاعدة على الأمن الإجتماعي الخليجي، والهروب المتكرر من التصويت مع الإجماع العربي إستنكاراً للإعتداءات الحوثية على السعودية وأبوظبي، فضلاً عن الإنحيازات الأخرى نحو المحور الإيراني. في حين يرى آخرون أن الإنكفاء الخليجي عن لبنان أفسح المجال لإيران وحلفائها في لبنان، وخاصة حزب الله، المجال لتعزيز سيطرتهم على مفاصل القرار في الدولة، وأخلى الساحة السياسية من عناصر قوة كانت دائمة تحقق بعض التوازن في المعادلة الداخلية، عدا الوهن الذي أصاب المؤسسات الإجتماعية والتربوية والصحية في البيئة الحاضنة لمشروع الدولة والسيادة والعلاقات العربية.
أما محاولات ربط بعض النافخين في نيران الخلافات مع الأشقاء العرب العودة الديبلوماسية الخليجية بالإنتخابات النيابية، فهي محاولات خبيثة لدرجة السذاجة، لأن الإستعدادات للإنتخابات قد إتخذت مسارها النهائي بإقفال باب الترشيح وتشكيل اللوائح، وتشرذمت صفوف جماعات المجتمع المدني والحراك التغييري، وتوزعت أصوات مناصري الخط السيادي على المرشحين المتنافسين في الدائرة الواحدة، وجمعت التحالفات الإنتخابية الأضداد في السياسة، وفرَّقت بين مَن مِن المفترض أن يكونوا في جبهة واحدة لإستعادة الأكثرية النيابية من الحزب وحلفائه.
ثمة عوامل محلية وأخرى إقليمية عديدة سرّعت عودة السفيرين القناعي وبخاري، يمكن إختصار أهمها بإثنين، على سبيل المثال لا الحصر:
محلياً، التجاوب اللبناني مع المساعي الكويتية في تطويق حالة التوتر بين لبنان والسعودية، وصولاً إلى التهدئة التي مهَّدت الطريق لبيان رئيس الحكومة الذي أكد فيه تعهد لبنان وحرصه على منع أي نشاط يسيء للدول الخليجية، سياسياً وأمنياً، بما ذلك مكافحة تهريب المخدرات من لبنان عبر الشحنات الزراعية والصناعية. وهذا البيان لقي ترحيباً سريعاً من الرياض والكويت.
إقليمياً، إقتراب إنتهاء مفاوضات فيينا بالتوقيع على الإتفاق النووي الإيراني من جهة، والتقدم الحاصل في اللقاءات السعودية الإيرانية من جهة أخرى، فتحا أبواب الحلول السياسية للأزمات المستعصية في المنطقة، بدءاً بالهدنة اليمنية وما رافقها من إجراءات لتعزيز الثقة بين الأطراف اليمنية، التي تخوض مفاوضات جدية لوضع نهاية لمأساة هذا البلد العربي المهيض، وصولاً إلى لململة الوضع اللبناني ووقف الإنحدار المستمر في أوضاعه الإقتصادية والإجتماعية، والإنتقال لاحقاً إلى السودان وليبيا وسوريا التي بدأت تخرج من عزلتها العربية.
غير أن العودة الخليجية لا تعني أن المساعدات المنتظرة تحركت بكبسة زر، بل العكس تماماً، حيث لا مساعدات قبل الإنتخابات النيابية، وما يجب أن يسبقها من إنجاز خطة التعافي الإقتصادي والمالي، وإطلاق ورشة الإصلاحات، والتأكد من حلول قواعد الحوكمة والشفافية مكان مستنقعات الفساد والسرقات في الإدارات العامة.
أما الكلام الرسمي عن التوقيع مع صندوق النقد الدولي، فهو من نوع ذر الرماد في العيون عشية الإنتخابات، والتطبيل بأسلوب شعبوي لخطوة لا تعني الحد الأدنى من الإلتزام من جانب الصندوق، إذا لبنان لم يلبِّ الشروط الإصلاحية والإجرائية المطلوبة في القطاعات الإدارية والمالية، وخاصة في قطاعي الكهرباء والمصارف.
مرحى بعودة صديقيّ لبنان السفيرين عبدالعال القناعي ووليد بخاري، على أمل أن يستعيد وطن الأرز مكانته المعهودة بين أسرته العربية.