وصل وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن إلى المنطقة من البوابة السعودية، بعد زيارة مهمّة له إلى الصين جاءت باردة ولم تحمل نتائج كبيرة، بل وصفت نتائجها بأنّها في إطار تنظيم التنافس الحاصل بين الجبارين على الرقعة العالمية، والسعي لإدارة الخلافات.
وتحدثت التسريبات بأنّ الوزير الأميركي حمل معه مطلباً إلى القيادة الصينية بالحدّ من الدعم الذي تقدّمه بكين الى موسكو، خصوصاً للمسائل التي تحمل استخدامات مزدوجة، أي مدنية وعسكرية. وكذلك حمل طلباً بعدم التدخّل في مسار الإنتخابات الرئاسية الأميركية من خلال اللعب على الإنقسامات الداخلية. وفي المقابل بدت بكين مرتابة ومستاءة من تخصيص الإدارة الأميركية لحزمة مساعدات لتايوان بقيمة 8 مليارات دولار. وقد تكون القيادة الصينية لعبت على وتر معادلة أوكرانيا مقابل تايوان.
فبالنسبة للدعم الذي تقدّمه الصين لروسيا فإنّ إدارة بايدن تخوض صراعاً حاداً مع الكرملين ليس فقط في أوروبا من خلال أوكرانيا، بل أيضاً في مختلف القارات، وهو ما أدّى إلى تراجع كبير في النفوذ الأميركي في غرب إفريقيا، وهو الساحل المطل على دول أميركا الجنوبية والتي تشكّل الخاصرة الرخوة للولايات المتحدة الأميركية.
فمن المتوقع أن يبدأ الجيش الأميركي بسحب قواته من تشاد (حوالى 100 ضابط وجندي) ومن النيجر (حوالى 1000 ضابط وجندي)، في الوقت الذي تعمل فيه روسيا على زيادة نفوذها وحضورها العسكري في غرب إفريقيا، وصولاً الى الساحل الإفريقي، ولاسيما عند البحر المتوسط. وهو ما يدفع بواشنطن للعمل على قطع التواصل الذي تسعى موسكو لإنشائه ما بين الشاطئ السوري ومنه إلى الشواطئ الليبية والجزائرية. وهنا تكمن أهمية بسط النفوذ على منطقة شرق المتوسط والشرق الأوسط.
أما بالنسبة للإنتخابات الأميركية فإنّ البيت الأبيض سعى لتبيان هوية الجهة الدافعة للتظاهرات الطلابية في الجامعات، وما إذا كان هنالك من بصمات دولية. وعلى الرغم من اشتداد هذه الموجة الطلابية إلّا أنّه لم تظهر حتى الآن وجود بصمات خارجية على الأقل داخل الأراضي الأميركية. والقراءة الأولى تشير إلى دوافع عاطفية وإنسانية دفعت بطلاب من أصول فلسطينية وعربية وإسلامية للتعبير عن غضبهم، وقد ساندهم طلاب أميركيون ينتمون الى الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي وفي إطار صراع الأجنحة داخل الحزب الحاكم. وهو ما يجب أن يرفع من مستوى القلق لدى الإدارة الديموقراطية. فلقد وصلت هذه الإحتجاجات وحالات التعاطف الإنساني الى ولايات معروفة تاريخياً بأنّها محافظة سياسياً، مثل تكساس وكارولينا الشمالية وجورجيا وأوهايو. ولم تنجح إدارة بايدن في التغلّب على هذه الإحتجاجات رغم السعي لإجهاضها.
ولا بدّ أن تكون إدارة بايدن تتعاطى مع الطرف الإيراني من هذه الزاوية أيضاً، في إطار العلاقة المتشابكة والمعقّدة بين واشنطن وطهران. ذلك أنّ إيران التي افتقدت لدعم روسيا والصين الفاعل على السواء في مواجهتها المفتوحة مع إسرائيل، بدت مهادنة لبايدن وإلى حدود المساعدة الانتخابية الصامتة، وحيث كان معبّراً توقف الهجمات على القواعد العسكرية في المنطقة منذ أكثر من شهرين، وعلى الرغم من «المواجهة» الصاروخية التي حصلت في الأجواء الإسرائيلية، الّا أنّ الهدنة بقيت سارية على القواعد العسكرية الأميركية. ذلك أنّ سقوط أي جندي أميركي سينعكس سلباً على بايدن الذي يخوض حملة صعبة، وسيعمل غريمه دونالد ترامب على توظيف الحادثة لصالحه. طبعاً هذا الموقف لا يتوافق مع توجّهات الكرملين الذي يراهن على عودة ترامب. وكذلك، فإنّ لإيران أوراق تأثير في آسيا الوسطى، والأهم في العديد من دول أميركا الجنوبية ومن خلال خلايا غير منظورة.
وعلى الرغم من وصول بلينكن إلى السعودية وهو يحمل معه هذه الملفات الصعبة، وبعد نقاش مضنٍ مع القيادة الصينية، لم يسجّل فيه أي تقدّم، ولكنه لم يؤد في الوقت نفسه إلى تشنجات إضافية.
ووفق ذلك، يبدو بلينكن أكثر تصميماً على محاولة إغلاق كافة الثغرات في المنطقة، لمنع أي تسلّل إضافي للصين وروسيا، يسمح لهما بتركيز موطئ قدم خصوصاً في الخليج، وقادر أن يشكّل جسر تواصل مع إفريقيا.
صحيح أنّ بلينكن سيشارك في الرياض في أعمال المنتدى الإقتصادي والمالي العالمي، لكن عينه على لقائه بوزراء مجموعة الدول العربية الست المعنية بملف الحرب الدائرة في غزة. فهو يتطلع الى «اليوم التالي» وإلى استكمال شروط السعودية لإنجاز التطبيع مع اسرائيل. عندها ستصبح ساحة الشرق الأوسط شبه مقفلة على موسكو وبكين.
ولكن «عقدة» نتنياهو والفريق اليميني المتطرّف والمتحالف معه لا تزال عصية على إدارة بايدن. فالحكومة الإسرائيلية لا تريد طي صفحة الحرب قبل تحقيق أهدافها القائمة على تهجير نهائي للفلسطينيين، وعلى أساس أنّها فرصة تاريخية لن تتكرّر دائماً.
وللواقعية، فإنّ إدارة بايدن تتقاطع مع نتنياهو حول حتمية تفكيك التركيبة العسكرية لحركة «حماس»، لكن من دون دفع المدنيين الفلسطينيين خارج أرضهم، وعلى أساس تركيب سلطة فلسطينية جديدة في غزة والضفة. وهنا يكمن الخلاف الفعلي بين واشنطن وتل أبيب. فالإدارة الأميركية اقترحت عوضاً عن العملية العسكرية الكبرى، إقرار اتفاق يؤدي إلى إطلاق الأسرى وتخلّي «حماس» عن العمل العسكري، على أن يتمّ لاحقاً القضاء على القيادات العسكرية لحركة «حماس» إما بنفيها أو باغتيالها. وهكذا تكسب إسرائيل أيضاً التطبيع مع السعودية. أضف الى ذلك ما نقلته صحيفة «الغارديان» البريطانية عن بيير لودهامار المسؤول في الأمم المتحدة، أنّ الكمية الهائلة من الأنقاض والذخائر غير المنفجرة في غزة قد تستلزم حوالى 14 عاماً لإزالتها. ما يعني أنّ انعدام مقومات العيش ستدفع بالغزاويين للرحيل طوعاً ومن دون ضجيج.
لكن حسابات اليمين الإسرائيلي المتطرّف ترتكز على أنّه يريد فعلياً تهجير الفلسطينيين من غزة تحت ستار العمليات العسكرية، كون ذلك أضمن.
ونتنياهو الذي أصبح محاصراً ما بين صدور مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهو ما يقض مضجعه، وبين التهديد باستقالة الوزيرين المتطرّفين بن غفير وسموتريتش، هو يراقب التحسن الكبير لصالحه في استطلاعات الرأي، ما يعطيه دافعاً إضافياً للذهاب الى استكمال الحرب والرهان على مزيد من الوقت.
وفيما بدا أنّ الجنون الإسرائيلي باتجاه الضفة الغربية جرى ترويضه بعض الشيء، إلّا أنّ الجبهة اللبنانية لا تزال ترزح تحت المخاطر المفتوحة.
صحيحٌ أنّ وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه عاد الى المنطقة من خلال بوابة بيروت، للسعي إلى معالجة الخطر الموجود، وعلى أساس حفظ دور فرنسا في مرحلة التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، إلّا أنّ الأطراف اللبنانية وتحديداً «حزب الله»، يدرك بأنّ المفتاح موجود لدى الأميركيين، وأنّ «الصفقة» تتمّ معهم وليس مع الفرنسيين، حتى ولو استبق سيجورنيه زيارته الى لبنان بتنسيق مع الإدارة الأميركية.
والزيارة السريعة التي قام بها مستشار الرئيس الأميركي آموس هوكستين إلى اسرائيل من دون أن يعرج على لبنان، تعني بأنّ الوقت لم يحن بعد للذهاب إلى وقف لإطلاق النار، وهو الشرط الذي ألزم «حزب الله» نفسه به للدخول في الترتيبات اللبنانية.
لكن هنالك من توقّع أن يتواصل هوكستين مع الرئيس نبيه بري بعيداً من الإعلام، لوضعه في آخر المستجدات.
وتجزم أوساط ديبلوماسية أميركية في واشنطن، بأنّ الملف اللبناني تحت المتابعة الحثيثة من جانب واشنطن، لدرجة أنّ البيت الأبيض أبلغ وزارة الخارجية أنّه سيتابع تطورات هذا الملف مباشرة، أي أنّه أصبح تحت عهدة فريق البيت الأبيض مباشرة. وهنا تكمن أهمية الدور الذي يتولاه هوكستين وغياب مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرة ليف عن الصورة.
ولا تزال واشنطن تتمسك بضرورة وقف إطلاق النار. ووفق ترسيم المشهد، فإنّ إسرائيل تتمسك بضرورة تكريس إبعاد سلاح «حزب الله» عن الحدود بشكل يضمن عدم تكرار عملية «طوفان الأقصى» مرّة جديدة من لبنان.
أما «حزب الله» فيشترط وقفاً لإطلاق النار في غزة، على أن يلي ذلك تحديد وتثبيت الحدود ومنع الخروقات الإسرائيلية، وأيضاً تلميحات مستجدة حول ملف استخراج الغاز من البحر.
الأوساط الأميركية، والتي لا تخفي تحقيق توافق أولي حول الكثير من نقاط التفاوض، فهي تردّد دائماً بأنّه من الخطأ الاعتقاد بأنّ إسرائيل تناور، لا بل فهي جدّية في تهديدها بالحرب، وهو ما ظهر بوضوح بعد السابع من تشرين، حين اندفع وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالنت لشن حرب على لبنان، إلّا أنّ واشنطن ردعته. وتصرّ إسرائيل الآن بأنّها لن توقف عملياتها العسكرية الّا بعد حصولها على ضمانات بمنطقة لا وجود فيها لسلاح سوى سلاح الدولة اللبنانية.
وتقول الأوساط الأميركية، إنّ واشنطن تريد أن تتحقق التسوية في لبنان من دون الإنزلاق الى الحرب، وأنّه لهذا السبب بالذات يصرّ البيت الأبيض على إمساكه بالملف اللبناني.
أما ملف الاستحقاق الرئاسي وإعادة إطلاق عجلة الدولة اللبنانية، فإنّ واشنطن ستتعاون مع باريس حوله، وهو ما أتُفق عليه عند زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان الى واشنطن، وجرى يومها تحديد المعايير التي سيُعاد بناء السلطة اللبنانية على أساسها.
وفي كل الأحوال، جرى تسريب العديد من هذه المعايير عبر الإعلام وأيضاً عبر اللجنة الخماسية.