IMLebanon

الإعصار الأميركي ـ الإيراني وتصدُّع النظام اللبناني

 

ما صبر الأمين العام لـ«حزب الله» على العزلة التي فرضتها القمم الثلاث بمكة المكرمة على إيران لمواجهة عدوانها على البيت الحرام وعلى أرض وشواطئ المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات؛ فخرج صارخاً ومهدداً الأميركان ودول الخليج بالإبادة، وقال إنه سيقاتل من لبنان مَن يعتدون على الجمهورية الإسلامية بالصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة. لكنه ما اكتفى بحرب الإبادة هذه، بل التفت إلى رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي أعلن تضامُنه مع المملكة والإمارات ضد العدوان فاتهمه بأنه خرج على اتفاقية النأي بالنفس حينما استنكر العدوان الموصوف. وقصة الإجماع اللبناني على النأي بالنفس عام 2011 ذات مصائر مأساوية ومن جانب «حزب الله» بالذات. فقد وقّع الحزب مع سائر الفرقاء السياسيين اللبنانيين على الاتفاقية في القصر الجمهوري في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان. لكنه كان أول المتنكرين لها عام 2013 عندما أرسل كتائبه العسكرية إلى سوريا لتهجير السوريين وقتلهم، وقال للمستنكرين مخالفته لمبدأ النأي بالنفس: اغسلوه واشربوا ماءه، فهو لا يساوي الورق الذي كُتب عليه! وبعد سوريا والتي لا تزال ميليشياه تقاتل ضد السوريين فيها، تدخّل عسكرياً وأمنياً في اليمن والبحرين والكويت والسعودية وأخيراً ضد دولة الإمارات. وقد أضاف إلى حججه الداحضة هذه المرة: أنّ الاتفاق الوطني للنأي بالنفس إنما يُلزمُ الحكومة ولا يُلزم الأحزاب السياسية المشاركة فيه! ولنتأمَّلْ في الأمر: الحريري تضامن ضد العدوان مع العرب الآخرين، وهذا حقه وواجبه حتى لو لم يكن عربياً. وهو لم يذكر إيران؛ بينما نصر الله الذي يريد من حكومة لبنان النأي بالنفس، أي التسليم بالعدوان على دول الخليج العربي، يتعهد بالقتال من لبنان ضد العرب والعالم إلى جانب إيران، دونما شعورٍ بالتناقض بين ما يقوله وما يطلبه من الآخرين. ومنذ أكثر من شهر يقر نصر الله توسيط الأميركيين لدى إسرائيل لترسيم الحدود معها، دونما حاجة إلى استئذان أحد، بل كلما جاء ساترفيلد، موفد أميركا إلى بيروت، في جولاته المكوكية بين إسرائيل ولبنان، يتفاوض مع بري مفوَّض «حزب الله»، ويكتفي بإطلاع وزير الخارجية اللبناني ورئيس الحكومة على المجريات. حسن نصر الله هو الذي يتولى شؤون الحرب والسلم ليس بالنيابة عن الدولة اللبنانية، بل باعتباره هو السلطة اللبنانية.

قبل هذا العهد الميمون، كان هناك فريق نصر الله والنظام السوري، والذي ينتهك كل الحرمات. وكان هناك فريقٌ معارض داخل الحكومة وخارجها لتصرفات ولي ولي الفقيه. فإذا اعترض أحدٌ على ما يقومون به فإنهم كانوا يعمدون إلى اغتياله، من رفيق الحريري عام 2005 إلى الوزير محمد شطح واللواء الحسن عام 2013. إنما بعد مجيء الجنرال عون إلى رئاسة الجمهورية، واستتباب الأمر لعهد التسوية وحكومتها، ما عاد هناك فريقٌ معارض. بل إنّ حكومة التسوية ما استطاعت التضامن مع السعودية عندما غُزيت سفارتها وقنصليتها في طهران وأصفهان؛ وتولى التعطيل آنذاك وزير الخارجية جبران باسيل.

وعلى أي حال، ففي الوقت الذي كان فيه نصر الله منشغلاً بإبادة إسرائيل، وترسيم الحدود معها، كان باسيل مشغولاً بتسويد المارونية السياسية على جثة السُّنية السياسية، كما قال. أما وزير الداخلية السابق النائب نهاد المشنوق الذي استنكر تصريحات باسيل من دار الفتوى، فقال إن باسيل يعتدي على الجميع: اعتدى على الرئيس بري، وعلى وليد جنبلاط، واعتدى دائماً بالتصريح والتصرف على الرئيس سعد الحريري. بيد أنّ حملات باسيل على السُّنة بالذات، لا تقتصر على التصريحات الخارجة، بل تتناول التدخل في القضاء، وفي التشكيلات القضائية، وفي التشكيلات الدبلوماسية، والاستيلاء منذ عشر سنواتٍ على وزارة الطاقة ووزارات أُخرى، واصطناع سياسة خارجية عجيبة غريبة للبنان ما عرفها في تاريخه، ومحاولة الانتقاص كل الوقت من صلاحيات رئاسة الحكومة، وإرادة العودة بها إلى صلاحيات رئيس الحكومة قبل «الطائف». وقد قال هو، ووافقه الرئيس، إنّ المراد «تعديل (الطائف) بالممارسة». وهو الأمر الذي اضطر مفتي الجمهورية إلى التدخل في خطبته في عيد الفطر والقول إنه ليست هناك سُنية سياسية ولا مارونية سياسية ولا شيعية سياسية، ولا حقّ لأحدٍ خارج الدستور!

يتسلل الاعتقاد لدى سياسيين عديدين أنّ هناك نوعاً من التنسيق بين الحزب وباسيل، ليس الآن فقط، بل منذ مجيء الجنرال عون إلى سدة الرئاسة. فالحزب ينفرد بدويلة مستقلة خارج جهاز الدولة مع أذرُعٍ قوية في سائر المؤسسات ومنها الجيش والمطار والمرفأ والمحكمة العسكرية. أما الجهاز التقليدي للدولة فيقع بالتدريج تحت السيطرة العابثة لوزير الخارجية رئيس التيار الوطني الحر. وقبل أسبوعين دخل رجال أمن الدولة إلى مكتب الأمين العام لوزارة الخارجية وفتشوه بحجة الاشتباه بوجود تسريب لتقريرٍ سري للخارجية من سفير لبنان لدى الولايات المتحدة. وقبل أيام جاء وزير الدفاع إلى المحكمة العسكرية لاستصدار حكمٍ بالبراءة على المقدم سوزان الحاج من قوى الأمن الداخلي التي تآمرت على ملاحقة وسجن فنان وإعلامي لفّقت له تهمة التجسس لصالح إسرائيل! وهناك تصرفات مشابهة تجري في سائر المؤسسات على الموظفين السُّنة الكبار، بالذات باتهامهم بالفساد ومحاكمتهم!

بعد قصة السُّنة السياسية التي يريد باسيل سحقها لصالح المارونية السياسية، طفح الكيل لدى السياسيين والمهتمين بإدارة الشأن العام. وتعبيراً عن ذلك تحدث المفتي وتحدث الوزير المشنوق وتحدث اللواء أشرف ريفي وزير العدل السابق، كما كان الرئيسان سلام والسنيورة قد تحدثا قبل مدة. والمشنوق ما اكتفى بالحملة على باسيل، بل وحمّل جزءاً من المسؤولية للرئيس الحريري بسبب صمته الطويل، وإعراضه عن الدفاع عن صلاحياته. إنما الواضح بعد هجوم نصر الله أيضاً على الحريري أنّ إحراج الرجل ماضٍ قُدُماً ومن دون حدودٍ أو كوابح. لقد كان منطق الحريري دائماً أنّ الأزمة الاقتصادية والسياسية كبيرة، ولا بد من الوحدة والتضامن والعض على الجراح. لكنّ المؤسسات تتصدع، والوظيفة العامة ما عادت آمنة، والمشكلات تتفاقم تحت وطأة الفساد المفضوح. ولذلك فإنّ الآمال بالموازنة التي أُنجزت بعد حفلة تعذيبٍ متطاولة من جانب باسيل، من أجل المضي نحو ميزات «سيدر» تضعف وتتضاءل. والحق أنّ شيئاً من هذه الإجراءات لن يكون له الآثار الإيجابية المرجوة، لأنّ الإصلاح من طريق التقشف كما تفترض الموازنة، لن يكون ممكناً من دون مؤسساتٍ تنفيذية شفّافة وقادرة. ثم إنّ كبح جماح باسيل، يظلُّ أقلّ عُسراً من كبح جماح الأمين العام للحزب، الذي يتفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود من جهة بحجة التمكين من التنقيب عن البترول والغاز؛ في الوقت الذي يبذل فيه كل جهدٍ (بمساعدة باسيل) لإحداث قطيعة مع العرب الخليجيين وغير الخليجيين.

لبنان محتاجٌ إلى دولة قوية، وحكومة فاعلة، للوقاية من عواصف المنطقة، وللتواصل مع العالم لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية. لكن تَحول دون ذلك ضغوط نصر الله لمساعدة إيران في اختناقها، ومطامح الوزير باسيل للوصول إلى رئاسة الجمهورية بعد الرئيس عون. وكلا الرجلين بل الفريقين يعتبران أنّ طموحاتهما يَحول دون تحقيقها نظام (الطائف) ودستوره والدولة القديمة والعميقة المسماة: «الصيغة اللبنانية». وأهل السنة ورئاسة الحكومة هما الطرفان الباقيان للُحمة العيش المشترك، وللصيغة التي تولوا حمايتها بعد «الطائف»، وقد هجرها الشعبويون والمقاومون. لقد خُيِّل لكلٍّ من المسيحية الشعبوية الجديدة، والشيعية السياسية الجديدة، أنه لم تعد لهما مصلحة في «الطائف» والدستور والشرعيتين العربية والدولية. ويا للبنان!