في زيارة نادرة زار الجنرال مارك ميللي رئيس هيئة الاركان المشتركة الاميركية في نهاية الاسبوع الماضي، القوات الاميركية المنتشرة في الشمال الشرقي من سوريا، والتي ما زالت تتابع عملياتها ضد فلول «داعش» المنتشرة في البادية الشرقية، وعلى الحدود العراقية. وتأتي زيارة الجنرال ميللي في وقت صدرت فيه عن وزارة الدفاع الاميركية تحذيرات لروسيا من ان عمليات امداد ايران بالاسلحة ستشجع الحرس الثوري وحلفاء ايران على توسيع انتشارهم ونفوذهم في الدول العربية.
تحتفظ الولايات المتحدة بقوة يقارب عديدها 900 جندي وضابط في سوريا وهي تؤشر الى مدى جدّية ادارة الرئيس جو بايدن على منع فلول «داعش» من اعادة التجمع وتطويع المزيد من المقاتلين من اجل انشاء قوى عملانية قادرة على اعادة هيمنتها على مناطق الرقة ودير الزور والحسكة. كما انها تساهم في ضبط ما يقارب 10000 سجين من «داعش»، لدى قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الحسكة، وتضطلع القوات الاميركية الموجودة في سوريا والعراق بمساعدة القوات الكردية على التسلح والتدريب في مناطق الشمال السوري، كما تساعد في تدريب وتأهيل القوات العراقية ورفع قدراتها وكفاءاتها العسكرية من اجل تمكين الحكومة العراقية من استعادة سيطرتها وسيادتها على اراضيها.
وكان رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني قد اعلن مؤخراً بأنه يدعم بقاء المستشارين العسكريين في العراق من اجل منع عودة تنظيم «داعش»، لكن تبدو الامور مختلفة جداً في العراق عما هي عليه في سوريا، حيث انه في ظل غياب ظهور أمل بأي حل سياسي للنزاع السوري، فإن قوات سوريا الديمقراطية ستبقى بحاجة ماسة للتواجد العسكري الاميركي الى جانبها لحمايتها من غزو تركي للمناطق التي يسيطر عليها الاكراد، وفي ظل عدم اعتراف نظام بشار الاسد بالحكم الذاتي الكردي لهذه المناطق.
اعتمدت ادارة بايدن تجاه المنطقة استراتيجية الصبر والمراقبة خلال السنة الماضية، ولكن يبدو بأن التطورات في الحرب الاوكرانية وفي منطقة الشرق الاوسط قد تدفعها الآن نحو بدء مرحلة جديدة اكثر حيوية، وذلك لخدمة اهداف اميركا في المنطقة في المدى البعيد، الامر الذي يتطلب اعادة النظر في تقييم التهديدات الايرانية، سواء كانت مباشرة او عبر الاذرع العسكرية الايرانية كحزب الله والحوثيين والميليشيات الايرانية في سوريا بالاضافة الى ميليشيات الحشد الشعبي العراقي لحزب الله وعصائب اهل الحق وميليشيات حزب الدعوة.
اللافت جداً في المشهد الاقليمي بأن وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن قد جاء بتوقيت زيارته لعدد من الدول العربية بعد يومين فقط من انتهاء زيارة الجنرال ميللي، مع الاعلان عن ان زيارته تهدف للتأكيد بأن الالتزام الاميركي باستقرار وامن المنطقة ثابت وباق لزمن طويل، وبأن سوريا والعراق والملف الفلسطيني وايران تأتي في رأس الاولويات الاميركية.
يأتي هذا الاهتمام الاميركي بمنطقة الشرق الاوسط على ضوء التطورات الاستراتيجية التي فرضتها العلاقات الروسية – الايرانية، وتدخل ايران في مسار الحرب في اوكرانيا من خلال مد روسيا بالمسيرات وبالصواريخ.
قبل عام من زيارة وزير الدفاع الراهنة للمنطقة اعلن منسق البيت الابيض برات ماغكورك لمنطقة الشرق الاوسط بأن اهداف الولايات المتحدة في المنطقة تتلخص بأربعة: خفض العنف في المنطقة، ومواجهة «داعش» والمساعدة في حل الازمة الانسانية في سوريا، وتقديم الدعم الاسرائيلي. ويبدو بأن مهمة ملاحقة «داعش» تأتي في رأس الاولويات، لكن يبدو بأن المنسق الاميركي قد تناسى عن قصد الدور الاميركي لحماية قوات سوريا الديمقراطية، وتناسى مهمة منع التمدد الايراني نحو شمال شرقي سوريا، وخصوصاً في مناطق دير الزور، الواقعة شرقي نهر الفرات وبالتالي قطع الطريق البري عن الايرانيين ومنعهم من الاستيلاء على موقع «التنف» الذي يؤمّن لهم فتح الطريق الذي يصل طهران ببغداد ودمشق.
تحمل زيارة الوزير اوستن الراهنة للمنطقة وللعراق ابعاداً استراتيجية تتعدى تلك التي حددها ماغكورك قبل عام، حيث انها تذهب الى اعادة التأكيد على جهوزية الولايات المتحدة للابقاء على وجودها العسكري وتوسيع مهامها لمساعدة العراق على النهوض سياسياً وعسكرياً وتوسيع دوره الاقليمي، بالاضافة الى العمل على الحد من النفوذ الايراني في العراق وسوريا، بالاضافة الى الحد من تهريب الاسلحة عبر بحر العرب والبحر الاحمر الى اليمن.
يحمل تجدد الاهتمام الاميركي بشؤون المنطقة رسائل عديدة باتجاه ايران اولاً لجهة الحد من نشاطاتها المزعجة لتخصيب اليورانيوم وتوفير الوقود النووي لاول قنبلة نووية، ولممارسة المزيد من الضغوط على التواجد الايراني في سوريا والعراق، مترافقاً مع مراقبة ما يجري داخل ايران من احداث عن كثب كوسيلة ضغط تهدد فعلياً أمن النظام.
وتحمل الاهتمامات الاميركية بالمنطقة رسائل الى روسيا بأن الولايات المتحدة لن تتهاون في مواضيع شحن اسلحة روسية متطورة الى ايران والاخلال بالتوازن الاستراتيجي بينها وبين حلفاء اميركا في المنطقة، وهناك ايضاً رسائل اميركية موجهة الى نتانياهو وحكومته اليمينية، وهي بقصد منع نتانياهو من تصدير ازماته للخارج سواء باتجاه ايران لجهة امتلاكها لليورانيوم العالي التخصيب او باتجاه التصعيد ضد الفلسطينيين وذلك ارضاءً ونزولاً عند رغبة حلفائه في الحكومة من اقصى اليمين الاسرائيلي، فالوزير الاميركي اوستن يريد ان يستغل زيارته للتأكيد على حقوق الفلسطينيين، وعلى المصالح الاميركية مع الدول العربية في الخليج وفي بلاد الشام.
السؤال الجوهري يتركز على انه في حال عودة الاميركيين للاهتمام باستقرار وأمن المنطقة مع التركيز على وقف التدخل الايراني في الشؤون الداخلية لأربع دول، ومنها لبنان، هل يمكن ان يطال التحرك الاميركي المأزق الرئاسي الذي يعطل كامل الحياة السياسية ويمنع بالتالي تشكيل حكومة فاعلة وقادرة على القيام بالاصلاحات المطلوبة؟ لا يبدو حتى الآن بأن التحرك الذي يقوم به وزير الدفاع الاميركي سيشمل لبنان، ولكن هذا لا يعني بأن لبنان وقضية انتخاب رئيس للجمهورية لن يحضرا على طاولة اجتماعات اللجنة الدولية الخماسية التي سبق واجتمعت في باريس خلال الشهر الماضي، والتي من المرجح ان تعود للاجتماع خلال هذا الشهر دون تحديد مستوى الحضور الدبلوماسي. هل سيكون على مستوى وزراء الخارجية ام يبقى على مستوى المندوبين والمستشارين.
في ظل حالة التصعيد التي فرضها كل من الرئيس نبيه بري وامين عام حزب الله السيد نصر الله، بتمسكهما بالوزير سليمان فرنجية كمرشح وحيد للثنائي الشيعي، فإن الامور تتجه نحو التصعيد والدفع نحو تعطيل اي امكانية لاجتماع المجلس النيابي لممارسة العملية الديمقراطية وانتخاب الرئيس العتيد.