تضمّن الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، إشارة واضحة إلى عزم الحزب على التعامل مع الحرب المالية كما لو أنها حروب عسكرية أو أمنية. المحطة الأولى في هذا المجال قد تكون في تعيين أربعة نواب لحاكم مصرف لبنان، بعدما تبيّن أن الرئيس سعد الحريري استجاب لضغوط أميركية تروّج لإبقاء النائب الرابع محمد بعاصيري، وأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة استخدم الضغوط في فرض التجديد لنوابه «الهامشيين». إلا أنه في المقابل، يقود رئيس الجمهورية ميشال عون معركة التغيير الشامل ولا يبدي الرئيس نبيه برّي أي ممانعة في هذا الإطار.
في 31 آذار تنتهي ولاية نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة، وسط انقسام سياسي على طريقة التعامل مع هذا الملف. الرئيس ميشال عون وإلى جانبه حزب الله، يسعيان إلى إجراء تغييرات مرتبطة بأهداف السياسات النقدية والمالية المتبعة ومسارها في مصرف لبنان منذ سنوات طويلة، فضلاً عن أن هذا المستوى من التعيينات مرتبط عضوياً بأهداف أعلنها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير، مشيراً إلى أن «العقوبات المالية هي حرب، ويجب أن نتعامل معها كأننا في حرب. مثلما هناك حرب أمنية وعسكرية وثقافية… هناك حرب اقتصادية ومالية». أما بالنسبة الى الأطراف الأخرى، فهم ينظرون إلى تعيينات نواب الحاكم على أنها جزء من حصصهم الطائفية في مؤسّسات الدولة وإداراتها.
الأميركيون هم من أكثر الأطراف التي استشعرت قرب انتهاء ولاية نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة. في زيارته الأخيرة للبنان، قاد مساعد وزير الخزانة لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلينغسلي حملة دعاية وترويج لنائب الحاكم الثالث محمد بعاصيري، باعتباره الوديعة الأميركية في المجلس المركزي لمصرف لبنان. بيلينغسليا قدّم شهادة مديح ببعاصيري أمام الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، في محاولة لتزكيته لولاية جديدة بعدما أمضى أكثر من 20 سنة في مصرف لبنان، ينتقل من لجنة الرقابة على المصارف إلى النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان.
بحسب المصادر، فإن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة استخدم الدعم الأميركي لبعاصيري، من أجل طلب التمديد للنواب الثلاثة الآخرين، أي النائب الأول رائد شرف الدين، النائب الثاني سعد العنداري، النائب الرابع هاروت صاموئيليان. سلامة يروّج بأن التجديد لنوابه الأربعة يؤمّن استقراراً مطلوباً في القطاع المالي وفي علاقات مصرف لبنان مع الخارج، ولا سيما العلاقات مع وزارة الخزانة الأميركية، في ظل سعي أميركي لزيادة الضغط على لبنان في إطار مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويل حزب الله.
يدرك سلامة أن القوى السياسية المنقسمة قد تذهب في اتجاه تسوية «التجديد» طالما أنها تؤمّن المحاصصة، إلا أن مقاربته المستندة إلى الرغبات الأميركية، ليست ثابتة. بمعنى آخر، إن الإدارة الأميركية تعمل وفق مصالحها العليا لا وفق أهواء أشخاص، فضلاً عن أن العلاقة بين مصرف لبنان ووزارة الخزانة هي الأساس وليست مرتبطة بين أي موظف في لبنان وموظفين في الولايات المتحدة.
ومقاربة سلامة تصطدم بتوجهات رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يرغب في ممارسة «التغيير»، في ما يعتبره بداية العهد بعد تأليف الحكومة. عون لا يحصر الملف بتعيينات نواب الحاكم فحسب، إذ تشير مصادر مطلعة إلى أن مقاربته تمتد إلى سلّة تعيينات مترابطة؛ من بينها تعيين نواب الحاكم الأربعة وتعيين أعضاء هيئة الأسواق المالية وتعيين مفوض الحكومة في مصرف لبنان.
«النفضة» في مصرف لبنان تكون لها قيمة أكبر إذا ترافقت مع تعيين مفوض قادر على تطبيق القانون
أما الرئيس نبيه برّي، فهو يُظهر مرونة في هذا الملف ليست متصلة بحسابات خارجية أو حسابات مرتبطة بالسياسات النقدية والمالية. فمنذ أسابيع، زاره رائد شرف الدين محاولاً معرفة رأيه بشأن التجديد لنواب الحاكم، فأجابه برّي بأنه لا يمانع التغيير إذا كان شاملاً النواب الأربعة، إلا أنه لن يسير بالتغيير طالما هناك تجديد لأي من نواب الحاكم، سواء كان التجديد لبعاصيري أو لسواه. وبحسب مصادر مطلعة، فإن حسابات برّي في هذا المجال تستحوذ عليها علاقته بعائلة الإمام المغيّب موسى الصدر (رائد الشرف الدين هو ابن رباب الصدر).
النائب وليد جنبلاط مثل الرئيس نبيه بري، لا ينظر إلى استحقاق نواب الحاكم على أنه فرصة لتغيير أي سياسات نقدية أو مالية، بل الأمر محصور بحسابات الطائفة. بالنسبة الى جنبلاط، إن تغيير سعد العنداري أولوية، لكنها لا تضاهي أولوية التماهي مع برّي للتغيير أو للتجديد. ويتردّد أن جنبلاط قدّم وعداً لفادي فليحان الذي يعمل في الإدارة العليا في «بنك ميد» بتعيينه بدلاً من العنداري، لكن هذه الشخصيات لا تنفي أن جنبلاط قادر على النكث بوعوده.
بالنسبة الى نائب الحاكم الرابع (أرمني)، فإن التغيير أمر محسوم لدى حزب الطاشناق. القيّمون على الحزب يرون أن هذا التغيير كان يجب أن يكون في مطلع هذه الولاية، إذ جاء تعيينه في انتظار تسمية بديل منه، لكن تسارع الأحداث والظروف تركا صاموئيليان يشغل هذا الموقع طوال هذه الولاية، وبالتالي لا بد من التغيير. آلية التغيير لدى الطاشناق مختلفة شكلياً عن الآليات المعتمدة لدى باقي الأحزاب، لكنها في المضمون تنطوي على الحسابات نفسها، أي تعيين الشخص الذي يختاره الحزب للقيام بهذه المهمة من دون تحديد أهداف لهذه المهمة تبتعد عن مصالح الطائفة والحزب.
إذاً، ما هي مبرّرات التغيير أو التجديد؟ في الواقع، هناك أكثر من إشكالية متصلة بعمل نواب حاكم مصرف لبنان. قانوناً، يستحوذ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على كل الصلاحيات وتوزيع الأنشطة على نواب الحاكم الذين يبقى دورهم غير محدّد في ظل المادة 18 من قانون النقد والتسليف التي تنصّ على أن «يعيّن نائبو الحاكم لخمس سنوات بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المال واستشارة الحاكم. وهم يمارسون الوظائف التي يعيّنها لهم الحاكم»، كما أن المادة 26 تعطي الحاكم «أوسع الصلاحيات لإدارة المصرف العامة وتسيير أعماله».
طبعاً هذه الصلاحيلات الواسعة لا تلغي صلاحيات المجلس المركزي الذي يتألف من نواب الحاكم، بالإضافة إلى مديري المالية العامة والاقتصاد. بإمكان نواب الحاكم أن يؤدّوا دوراً واسعاً في المجلس المركزي، إلا أنه في ظل النواب الحاليين، الأمر ليس متاحاً، إذ تمكّن سلامة من مصادرة هذه الصلاحيات بالممارسة، علماً بأنها صلاحيات مهمة وواسعة منصوص عليها في المادة 33 من قانون النقد والتسليف: تحديد سياسة المصرف النقدية والتسليفية، تحديد معدل الحسم ومعدل فوائد تسليفات المصرف، يتذاكر في جميع التدابير المتعلقة بالمصارف، يتذاكر في إنشاء غرف المقاصة، يتذاكر في طلبات القروض المقدمة من القطاع العام، يضع النظام الخاص المتعلق بالحاكم وبنائبيه، يقرّ موازنة نفقات المصرف ويدخل عليها التعديلات اللازمة ويوافق على قطع حسابات السنة المالية…
في السابق، جرت محاولات للانتفاض على محاولات سلامة مصادرة صلاحيات المجلس المركزي بعد مصادرة صلاحيات نوابه. ناصر السعيدي شكّل حالة في وجه سلامة، كما كان أحمد الجشّي صلباً في مواجهة شبه دائمة مع سلامة ومعترضاً على سياساته النقدية. كان هناك نواب آخرون يساندون السعيدي والجشّي، إلا أن الأمر انتهى بأن سلامة اشتكاهم عند السياسيين وتمكّن من إزاحتهم بالسياسة، إلى أن ركّب «الطقم» الحالي الذي يردّد كل جملة يقولها سلامة.
«النفضة» التي يحاول ميشال عون أن ينفذها في مصرف لبنان وهيئة الأسواق المالية، قد يكون لها قيمة أكبر إذا ترافقت مع تعيين مفوض حكومة قادر على تطبيق نصّ المادة 42 من قانون النقد والتسليف التي تحدّد صلاحياته بـ«السهر على تطبيق قانون النقد والتسليف، مراقبة محاسبة المصرف». على قلّة هذه الصلاحيات، إلا أنها تخوّل مفوض الحكومة التدخل في كل شاردة وواردة وإبطال قرارات المجلس المركزي وحاكم مصرف لبنان. في الواقع، لا ينسى أحد أن سلامة نفّذ الهندسات المالية من دون العودة إلى المجلس المركزي، بل أطلعه عليها لاحقاً. هذه الهندسات حققت للمصارف أرباحاً بقيمة 5.6 مليارات دولار في بضعة أيام من خلال تحويل المال العام إلى مال خاص.