Site icon IMLebanon

تطبيق النموذج الإقتصادي الكوري على لبنان

 

خرجت كوريا الجنوبية من الحرب العالمية الثانية شبه مُدمّرة مع وضع إقتصادي تعيس حيث أن الناتج المحلّي الإجمالي كان في حدود الـ 260 د.أ للفرد. لكن السياسية الإقتصادية التي إتبعتها كوريا الجنوبية دفعت بها إلى إحتلال المرتبة الثانية عشر عالميًا على الصعيد الإقتصادي. فما هي هذه السياسة وهل تنطبق على لبنان؟

كانت شبه الجزيرة الكورية، وبسبب نسيج شعبها، عرضة للصراع الصيني – الياباني. وأدّت الحرب العالمية الثانية مع إحتلال الإتحاد السوفياتي للقسم الشمالي من هذه الجزيرة والولايات المُتحدّة الأميركية القسم الجنوبي منها، إلى تقسيم شبه الجزيرة إلى كوريتين شمالية تابع للمحور السوفياتي وجنوبية تابعة للمحور الغربي.

بدأت الحرب بين الكوريتين في العام 1950 حيث قامت الصين بدعم الشمالية والولايات المُتحدة الأميركية بدعم الجنوبية. وأدّت الحرب بين الكوريتين إلى خسائر كبيرة مع 150 الف قتيل، 250 ألف جريح وأكثر من 3 ملايين مفقود (من كوريا الجنوبية فقط).

هذه الأرقام الرسمية تُخالفها بعض الدراسات التي تتحدّث عن أكثر من مليون قتيل وتدمير لمُعظم المدن في كوريا الجنوبية مع تدمير شبه كامل للماكينة الإنتاجية فيها. هذه الحرب توقفت في العام 1953 مع توقيع معاهدة «بان مون جيوم» بين الكوريتين.

التضخم والبطالة ضربا الإقتصاد الكوري الجنوبي بحكم تدمير القطاعات الإنتاجية. وعلى الرغم من المُساعدات الأميركية الهائلة (بلغت 8% من الدخل القومي، 64% من الإستثمارات الأجنبية المُباشرة، و70% من الصادرات الكورية الجنوبية إلى الولايات المُتحدة الأميركية ما بين 1945 و1961)، إلا أن البدء بالخروج من هذا الوضع الإقتصادي والإجتماعي القاتم لم يحصل إلا في العام 1957. وما ميّز الإقتصاد الكوري الجنوبي في هذه الفترة هو تدهور الميزان التجاري وعجز الموازنة واللذين ينطبقان على الإقتصاد اللبناني.

السياسة الإقتصادية التي إتبعتها كوريا الجنوبية لتطوير إقتصادها بين العامين 1953 و1980 إنقسمت إلى ثلاث مراحل:

أولًا: مرحلة إستبدال السلع المُستوردة بسلع مُنتجة محليًا (1953-1961): فقد أخذت الأسعار بالإستقرار بين الأعوام 1957 و1960 مع ثبات في سعر صرف العملة الكورية الجنوبية (وون) ووقف التدهور في المالية العامة.

وبدأت كوريا تعتمد إقتصاد السوق الحر مع تحفيز هائل لمناخ الأعمال والإستثمارات. وقامت كوريا الجنوبية بوضع ميثاق تعاون مع الشركات الخاصة تتمحور حول ثلاثة سلع أساسية هي القطن، السكر، والطحين (ما سُمّي بالثلاثي الأبيض). وتميزت هذه الفترة بإستبدال الكثير من السلع المُستوردة بسلع مُنتجة محليًا من خلال إعطاء الشركات المحليّة القروض لإنتاج السلع الأكثر إستيرادًا.

ثانيًا: مرحلة التركيز على تصدير البضائع (1961-1973): حيث قامت حكومة كورية الجنوبية بإعتماد إستراتيجية التصدير من خلال دعم الشركات والتصويت على قانون محاربة الفساد في العام 1961 مما غيّر جذريًا في أداء المؤسسات العامة.

أيضًا قامت الحكومة بخلق جمعية رجال الأعمال الكوريين وأطلقت مجمّعا صناعيا لإنتاج الصلب وأعادت العلاقات الدبلوماسية مع اليابان التي أصبحت سوقًا مهمًا للمنتوجات الكورية الجنوبية.

هذه المرحلة شكّلت بدء التطورّ الإقتصادي مع تحسّن المؤشرات الإقتصادية وتطوّر القطاع الصناعي، ولجم التضخمّ وزيادة التبادل التجاري مع العالم مدعومة بسعر صرف عملة منخفض مُقابل الدولار الأميركي.

ثالثاً: مرحلة إنشاء صناعات ثقيلة (1973-1980): تميّزت هذه الفترة بإرتفاع الأرباح مما أدّى إلى زيادة مدخرات القطاع الخاص وبالتالي أصبح هناك رأسمال ثابت (Capital Fixe) مما سمح بزيادة الإستثمارات. هذا الوضع غيّر واقع الإقتصاد الكوري الجنوبي من نموذج الإكتفاء إلى نموذج الإستهلاك الكثيف (Modèle de Rostow).

هذه الإستثمارات دفعت بالقطاع الصناعي إلى إعتماد الصناعات الثقيلة من خلال التمويل الذاتي الذي يمرّ عبر تصدير منتوجات الصناعات الخفيفة وإستثمار الأرباح في الصناعات الثقيلة.

ومع تنويع الصناعات إستطاعت كوريا الجنوبية الإستمرار في النمو وزيادة حجم قطاعها الصناعي إلى حد بلوغ بعض الشركات الكورية الجنوبية أحجامًا هائلة مثال شركة سامسونغ وهيونداي وكيا وغيرها.

بدأت الحكومة مرحلة جديدة من إعتماد إستبدال المنتوجات المُستوردة بمنتوجات مُنتجة محليًا ونجحت في القضاء على عجز الميزان التجاري حيث أصبحت كوريا الجنوبية تتمتّع بإكتفاء ذاتي في العديد من القطاعات الصناعية والزراعية وعلى رأسها الرز.

وإعتمدت الحكومة سياسة ضريبية لتحفيز ودعم الشركات في قطاع الصناعة الرقمية حيث أصبح البلد لاع أساس في هذا القطاع على صعيد الـ Hardware والـ Software.

مع إنتهاء هذه المرحلة أصبحت كوريا الجنوبية تتمتّع بقطاع صناعي قوي في مجال الإلكترونيات، البتروكيماويات، السيارات، الحديد، صناعة البواخر، والصناعات الميكانيكية.

الأعوام 1980 وما بعدها تميّزت بتغيير في قواعد اللعبة الإقتصادية على الصعيد العالمي مع بدء السياسات الحمائية مما فرض على كوريا الجنوبية بعض التعديلات في نموذجها الإقتصادي. وقامت الحكومة بموجة إستثمارات في قطاع النفط خصوصًا في المملكة العربية السعودية وهذا ما أعطى دفعًا قويًا للناتج المحلّي الإجمالي الكوري الجنوبي مع نسب نمو تفوق الـ 15%!

وقامت الحكومة في نفس الوقت بسنّ قوانين تواكب التطور العصري والعولمة التي أضحتّ شأنًا داخليًا أيضًا نظرًا لإعتماد كوريا الجنوبية على الأسواق الخارجية.

اليوم، تقف كوريا في المرتبة 12 في لائحة الدول من ناحية الناتج المحلّي الإجمالي مع دخل سنوي للفرد يفوق الـ 21 ألف دولار أميركي مقارنة بـ 260 دولار أميركي في ستينات القرن الماضي. هذا الإنجاز الهائل هو نتيجة الإرادة الوطنية لكوريا الجنوبية بالعمل وتوزيع الثروات بشكل عادل في المُجتمع كلٌ بحسب مُساهمته في الإقتصاد.

يبقى السؤال: هل يُمكن تطبيق هذه السياسة في لبنان؟

إن المُقاربة بين وضع كوريا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي وبين لبنان حاليا هو أمر مشروع من ناحية أن الإقتصادين (كوريا الجنوبية في الستينات ولبنان حاليًا) لهما عجز مزدوج في الموازنة وفي الميزان التجاري. كما أن ضعف القطاع الصناعي والزراعي والإعتماد على الإستيراد لسدّ حاجة السكان هما من بين الأمور المُشتركة.

لكن لبنان حاليًا يتميّز بعدد من النقاط الإيجابية التي لم تكن كوريا الجنوبية تتمتّع بها في ذلك الوقت مثل حجم الودائع في القطاع المصرفي. من هذا المُنطلق، يتوجّب على الحكومة اللبنانية البدء في تنفيذ خطّة كوريا الجنوبية مع لبننة بعض التفاصيل.

تبقى الإستثمارات، وهي أكثر ما يحتاجه الإقتصاد اللبناني. لكن هذه الإستثمارات في حاجة إلى مُحفزات وإلى توجيه من قبل الدولة لكي يكون مفعولها مُعظّما، وبالتالي يتوجب على لبنان القيام بتغيير جذري في هيكلة إقتصاده والخروج من إقتصاد يعتمد الريع والخدمات إلى إقتصاد مُتنوّع مع التخصّص في بعض القطاعات مثل التكنولوجيا والصناعات التحويلية.

وهنا يتوجّب على الحكومة وضع لائحة بأول 50 مُنتجا يستوردهم لبنان من الخارج ومُحاولة تصنيع أو تجميع هذه المُنتجات في لبنان مما يُقلل من العجز في الميزان التجاري، يزيد من فرص العمل ويرفع الناتج المحلّي الإجمالي. زراعيًا، يتوجّب على الحكومة تطوير هذا القطاع من خلال إستثمارات تشمل الزرع، الريّ، الحصاد كما وخلق أسواق محلّية في المناطق لبيع المحصول.

بالطبع هذا الأمر يُلزم الحكومة إعادة تأهيل البنى التحتية والخدماتية في لبنان لإستيعاب التغيير من خلال بناء وتأهيل طرقات وسكك حديدية بشكل يحفظ الإنماء المتوازن ويحلّ العديد من المشاكل مثل مشكلة السير والسكن وغيرها من الأمور التي تمنع التطور الإقتصادي. ولا يُمكن نسيان قطاع الكهرباء الذي يُعتبر العصب الرئيسي للإقتصاد حيث يتوجّب إنشاء معامل في كل مُحافظة بغية تلبية الطلب المُتزايد.

على نفس الصعيد، لا يُمكن تناسي الإستراتيجية الحرارية لأنها من الأسباب الرئيسية لعجز الميزان التجاري. فلبنان يستورد مُشتقات نفطية بقيمة 5 مليار دولار أميركي سنويًا مُعظمها يذهب في الإستهلاك وليس في الماكينة الإنتاجية.

أيضًا، هناك حاجة مُلحّة لإنشاء الحكومة الإلكترونية وإلى تخفيف شروط المُعاملات الإدارية للشركات وسياسة ضريبية تحفيزية تأتي لدعم إنشاء الشركات الصغيرة والمُتوسطة الحجم والتي ستلعب دورًا أساسيًا في محاربة الفقر وإستجلاب التكنولوجيا إلى الماكينة الإقتصادية اللبنانية.

ولا يُمكن تناسي محاربة الفساد الذي يُلقي بثقله على المالية العامّة (5 مليار د.أ سنويًا خسائر) وعلى الإقتصاد (5 مليار د.أ غياب فرص إقتصادية) مما يفرض سنّ قانون لمحاربة الفساد ورفع أداء المؤسسات العامّة.

على صعيد الثروة النفطية، يبدو الإقتصاد اللبناني غير مؤهل في الوقت الحالي لإستيعاب إستخراج النفط وبالتالي فإن نظرة الطبقة السياسية الى هذه الثروة تنحصر في زيادة مدخول الدوّلة فقط لا غير وهذا بإعتقادنا خطأ جسيم لأن دور الثروة النفطية هو دور إقتصادي وليس ماليا كما أظهرته تداعيات إنخفاض أسعار النفط على إقتصادات دول الخليج.