لا نختلف على أن الشعوب كائنات حية، تنمو وتتغير. تتطور وتتقدم وتنتكس عبر حركتها في رحاب الزمان، وفوق تضاريس مكونات المكان.
هناك مأزق عربي؛ بل أكثر من مأزق واحد، ولكن لنقف أولاً عند كلمة «العربي»، ماذا نقصد بها اليوم؟ هل هو الإنسان الذي يتحدث اللغة العربية؟ أو يتحدر من العرق العربي؟ كل المتساكنين في المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط؟ ما المكونات التي تربط هؤلاء اليوم؟
هل هم أمة واحدة، في وطن واحد، لهم الهوية الثقافية نفسها، يتحركون نحو الأهداف نفسها، أو لنقل نحو الأحلام نفسها؟
بعيداً عن تفاصيل جيولوجيا التاريخ القديم، لنقف في عجالة مع محطات زمنية أنتجت مفاهيم كانت من أبناء وبنات وقتها. ففي أواخر العهد العثماني، برزت عقلية التتريك الطورانية التي ولَّدت نزعة مضادة حملت شحنة في المشرق العربي عنوانها القومية العربية. وبعد الحرب العالمية الأولى، برزت نزعات قومية شوفينية في أكثر من بلد في العالم.
بعد الحرب العالمية الثانية، استيقظت الشعوب المستعمرة تناضل من أجل الاستقلال. الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي انتظمت في رابطة آيديولوجية هي الشيوعية، وأوروبا الغربية والولايات المتحدة في تكتل العالم الحر، في تجمع وصف بالليبرالي. استقلت البلدان العربية وقامت جامعة الدول العربية، وهو تجمع إقليمي موصوف لا تغطيه عباءة آيديولوجية. وفي بداية ستينات القرن الماضي، تأسست منظمة الوحدة الأفريقية، انضمت إليها الدول العربية الأفريقية.
الأحزاب الآيديولوجية العربية كانت وليدة خمسينات القرن العشرين، كانت الشعارات القومية – أقول الشعارات – هي وقودها، والوحدة العربية هي هدفها، وتحرير فلسطين الغاية المقدسة. تهاوت تلك الأحزاب القومية تاركة المساحات السياسية والفكرية لنسائم آيديولوجية إسلامية. بقينا تحت ظلال الشعارات من «أمة عربية واحدة»، إلى شعار «الإسلام هو الحل».
أوروبا التي عاشت حربين عالميتين ودَّعت الشوفينية الوطنية المدمرة، وتجاوزت الآيديولوجيات، تحركت بواقعية حكيمة نحو وحدة اقتصادية تقودها ديمقراطية عقلانية، وأسست كياناً اقتصادياً عملاقاً. الصين أعادت إنتاج نفسها بعد غياب ماو تسي تونغ، ووضعت كتابه الأحمر في متحف الذكريات، وأصبحت النمر الاقتصادي الآسيوي العملاق. أميركا اللاتينية من أحلام سيمون بوليفار الثورية الوحدوية إلى العواصف الماركسية والانقلابات العسكرية، انتهت إلى مشروعات للتنمية والديمقراطية.
انتبه بعض العرب، وتجاوزاً للشعارات أسسوا تجمعات إقليمية، على رأسها مجلس التعاون الخليجي، ثم اتحاد المغرب العربي، وأطلت أمنية رغبوبية عند بلدان أخرى، هي مصر والأردن واليمن والعراق، لتأسيس الاتحاد العربي الذي مات اسمه بعد غزو العراق للكويت.
هناك حقائق كشفتها ثورات الربيع العربي، أولاها أن الدول التي رفعت شعارات الوحدة العربية كانت الأكثر هشاشة في داخلها. لم تمتلك هوية اجتماعية صلبة توحدها. ثانية تلك الحقائق أن كيان الدولة غير متكامل؛ بل غائب في بعضها كلياً. والحقيقة الأخرى أن الاختلاف بين البلدان العربية أكثر بكثير من التوافق والتشاكل.
الحقيقة الصادمة هي هشاشة كثير من الكيانات، ما جعلها سهلة الاختراق من القوى الأجنبية المختلفة. الاختراق الطائفي المذهبي كشف غياب اللازب الوطني الموحد – للمجتمعات.
الأسئلة: هل شعارات أو هدف الوحدة القومية التي طغت في صيرورة تاريخية معينة، ما زالت قابلة للاسترداد؟ وهل هناك نمط سياسي واحد قابل للتطبيق في جميع البلدان من المحيط إلى الخليج؟ وهل يوجد اليوم تماثل اجتماعي واقتصادي وثقافي بين هذه الدول؟
التجارب التي عاشتها شعوب ما يعرف بالعالم الثالث تقدم لنا مؤشرات؛ بل دروساً نستضيء بها. أتوقف هنا عند تجربتين في أفريقيا، وهما: التجربة السنغالية والتجربة التنزانية. هذان البلدان من الدول الأفريقية التي لم تشهد انقلابات عسكرية، ونجحت في ترسيخ الوحدة الوطنية. الفضل في الحالتين إلى شخصيتين قياديتين، هما جوليوس نيريري في تنزانيا، وليوبولد سنغور في السنغال، قاما بدور الأب الوطني الذي زرع بذور السلم الاجتماعي، وتهيئة البلاد للانتقال والتداول السلمي على السلطة.
القراءة الموضوعية لوضعنا اليوم تؤكد غياب الثقة بين كثير من الأنظمة العربية، مما يجعل التعاون في غاية الصعوبة. فلنبدأ بترسيخ سياسة حسن الجوار، التي ترتكز على بناء الثقة وعدم التدخل في شأن الآخر، ثم الانتقال إلى سيولة التجارة البينية بين الدول وتشجيع الاستثمار، وتجاوز نهج تصدير الآيديولوجيات والعنف، واحترام خصوصيات كل مجتمع.
لكل زمن منتجاته الفكرية والسياسية. الحياة تتقدم بالتجديد في كل شيء، وما لم نمتلك الجرأة الفكرية كنخب لقراءة الواقع واجتراح خرائط مستقبلية، بمقاييس رسم فكرية جديدة تستضيء بتجارب الإنسانية، سنبقى ندفع ثمن الحياة في متحف الأحلام والرغائب.
الدولة الوطنية المستقلة، هي الحقيقة الواقعية اليوم. الدول التي انتظمت في كيان ما قبل الكونفدرالي مثل أوروبا، احتفظت بكيانها الوطني، وبرزت في هذا التجمع هبَّات شعبوية تقاوم سياسات هذا التجمع الاقتصادي. نشترك في اللغة والموروث الفني والأدبي؛ لكن علينا ألا نحمله ثقلاً لا مكان له على أرض الواقع، ولا حتى في الرؤوس.
بالنظر إلى بريطانيا العظمى التي سيطرت على نصف العالم، حكمت بقوة السلاح والدهاء السياسي. ولدت من رحمها دول مارست العنصرية، مثل الولايات المتحدة، وجنوب أفريقيا، وروديسيا… بريطانيا هذه أصبحت اليوم دولة يشارك في قراراتها المصيرية كثير من الذين قدم آباؤهم من مستعمراتها السابقة. قل هذا الكلام ذاته عن أميركا وفرنسا. الحقيقة الأخرى أن نسبة التعليم التي ارتفعت في البلدان العربية ووسائل الاتصال والإعلام، وارتفاع درجة الوعي عند الشباب، كل ذلك يجعل مراجعة كثير من المفاهيم القديمة أمراً لا مناص منه.
لنطرح سؤالاً قد يضيء لنا مسار المراجعة، وهو: لماذا انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبقرار من الشعب البريطاني في استفتاء عام؟ ببساطة نقول: إن الشعب البريطاني، وهو شعب واع ومسيس، راجع المعطيات التي قادته يوماً ليكون عضواً في هذا الكيان الأوروبي، واتفقت غالبيته على مغادرته. أوروبا تحركت قبل ذلك على مدى عقود، لتصل إلى صيغة التكامل في اتحادها الذي يخضع دون توقف لمراجعات تنظيمية وإدارية وسياسية. الرابط الأساسي الذي يجمع القارة الأوروبية هو منظومة القيم الأساسية، وهو (الديمقراطية)، وسيادة القانون، والمساواة بين الناس من خلال قاعدة المواطنة، والقدرة على إدارة الاختلاف.
هل تستطيع النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية العربية، أن تقدم مشروعاً موضوعياً وواقعياً، لتأسيس علاقات بين أقطار تجمعها الجغرافيا والتاريخ والدين، يمكنها من تحقيق التعاون الاقتصادي البيني، بعيداً عن ثقل الوهم الشعاراتي، وعن تصدير الأفكار والآيديولوجيات العابرة للحدود، وأوهام السيطرة على الآخر؟ ما توصلت إليه أوروبا كان ثمرة عقود؛ بل قرون من الصدام الدموي ومعاناة البشر من جنون الديكتاتورية، وأوهام الهيمنة.
لكل عصر تربته العقلية، ويحتاج إلى بذور تتناغم مع هذه التربة، كي تنمو وتثمر.