ثمة اتفاق بين كثر من علماء التاريخ والإنتروبولوجيا أن تأسيس الدول جاء كحل لمشكلات عانت منها الجماعات البشرية القديمة وأولها وأهمها مشكلة الأمن حيث كان يسع القويّ الاستيلاء على ممتلكات وحياة الأضعف وحرمانه منها. جاءت الدولة كتجسيد لسيطرة «أقوى الأقوياء» على الجماعة بحيث يحقق مصالحه بالإقناع أو بالإكراه ويسمي هذه الممارسة «سلطة» ويحمي حقه في تطبيقها بأعراف وشرائع أُطلق عليها لاحقاً مصطلح «القانون».
لم يتعرض الجوهر العنيف والقسري للدولة إلى المساءلة وإعادة النظر قبل عصر التنوير الأوروبي. كانت الدول منذ ظهورها، في الشرق وفي الغرب تعفي نفسها من أية مهمة تتجاوز الدفاع عن أراضيها، مصدر الثروة الزراعية والمعدنية ومورد الجباية والضرائب. حماية الرعايا كانت تعني الحفاظ على مصدر رزق الحاكم الذي يعي جيداً أن موارده ورواتب جنده الذين يحمون مُلكه تأتي من الضرائب التي يدفعها العامة. عليه، من مصلحته المباشرة عدم تعريض سكان إقليمه إلى خطر الغزوات الأجنبية التي غالباً ما يقوم بها حكام يشبهونه ويسعون مثله إلى تعزيز مداخيلهم وإبعاد الأخطار عن دافعي الضرائب. بيد أن رفاه هؤلاء السكان وصحتهم ومستقبل أولادهم، لم تكن مما يعني السلطان أو الملك في العصور القديمة أو الوسطى.
قضايا التعليم والصحة العامة والنظافة وتوزيع الأراضي والبحث العلمي وغيرها، ظهرت تدريجاً على امتداد آلاف الأعوام مع تزايد عدد البشر ومع بروز الحاجة إلى أعمال ووظائف جديدة ترعى مصالح الدولة. فضرورة البيروقراطيين المحترفين سواء كانوا جباة ضرائب يتقنون الحساب أم رجال دين يقدمون التبريرات الغيبية لسلطة الحاكم، أملت تحسين التعليم وتوسيعه. والخسائر الهائلة التي تلحقها الأوبئة بخزينة الدولة فرضت إيلاء الاهتمام بالرعاية الصحية وبالنظافة العامة…الخ.
يبدو التذكير بهذه الرحلة التي سارتها الدولة كمؤسسة تمضي من التركيب البسيط إلى الأكثر تعقيداً، من دون أن يتغير مضمونها الأصلي كجهاز يدافع عن مصالح فئة محددة، ضرورياً مع انتشار توقعات بين المواطنين العرب الذين يطالبون دولهم بأن تكون صنواً لما يراه المواطنون في دول الغرب. والحال أن التوقعات والانتظارات هذه تقفز فوق عدد من المعطيات الأساسية التي تضع حدوداً صلبة وعالية بين نظرة الدولة العربية إلى ذاتها وتعريفها مهماتها وبين ما يراه المواطن العربي كأدوار يتعين على الدولة القيام بها.
معلوم أن أكثرية الدول العربية عمدت إلى الإفراط في تضخيم حجم آلتها البيروقراطية كنوع من إبقاء السكان ضمن الرعايا المرتبطين عضوياً بها وببقائها (لذلك تبدو الشكوى من اتساع «البطالة المُقنّعة» نوعاً من النفاق لا أكثر)، ما يحول دون ظهور «المواطن» المستقل الحر الذي يسعى إلى تحصيل حقوقه بعد أن أدى واجباته للدولة على شكل ضرائب أو خدمة إجبارية في قواتها المسلحة أو اقتراع لمرشحيها إلى الانتخابات. يمكن للتنافر هذا أن يفسّر العلّة في ضيق الدول العربية من كل ظواهر الهيئات المدنية والفنانين والكتاب المستقلين.
في المقابل، يجوز التساؤل عن مدى تمثيل المطالب التي يرفعها دعاة الدولة الحديثة بما هي دولة رعاية وحقوق ومواطنين، للفئات العربية الأعرض. هذا التساؤل يأخذ منحى حاداً مع الفشل الذي مُنيت به الثورات العربية حيث أبرزت «العودة إلى حضن الوطن» تماسك الدولة السلطانية القديمة في العالم العربي وضآلة الطلب على الحرية. كانت انتظارات العديد من المطالبين بدولة المواطن في غير محلها.