انعقدت القمة 32 في جدة يوم الجمعة الماضي بحضور جميع اعضاء الجامعة العربية، بعد اعادة تأهيل سوريا للعودة الى الحضن العربي، واطلق على القمة شعار «قمة حل الازمات او تصغير الازمات».
وشكل اعلان قمة جدة ببعض بنوده خروجاً على المألوف اعتماده في القمم السابقة، وخصوصاً عملية الدخول في مساومات لارضاء كل الدول من خلال مراعاة بعض الاوضاع الخاصة بها. وكان اللافت جداً ان القمة قد خلت من الاشتباكات الاعلامية او المواجهات المباشرة خلال الجلسات العامة، وذلك بالرغم من احتدام الازمات المتفجرة في عدد من الدول العربية، والمعارك العسكرية التي يشهدها السودان.
وصادقت القمة بالاجماع على «بيان جدة» والذي كان قد جرى اعداده من قبل وزراء الخارجية قبل انعقاد القمة. وعلى غرار بيانات القمم السابقة فقد شكلت بنوده اعلان نوايا، دون ان تحدد اية آليات ودون ان تشكل اية لجان او هيئات للمتابعة والبحث عن حلول للازمات المستعصية التي تعصف في عدد كبير من الدول، وبما يؤشر الى ان هذه الازمات هي مرشحة للاستمرار لسنوات عديدة مقبلة، مع امكانية الدفع نحو تحوّل الاقتتال الواقع بين الجيش السوداني وقوات الردع السريع الى حرب اهلية، والتسبب بانقسامات عرقية، ستؤدي في نهاية المطاف الى تهديد وحدة الارض والشعب.
وجاءت المفارقة ما بين بيان قمة جدة والبيانات السابقة له، والصادرة ايضاً من قمم عربية في بندين نص عليهما. ويتعلق البند الاول بالتشديد على وقف التدخلات الخارجية في الشؤون العربية، و«الرفض التام لتشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة». ويمثل هذا البند في مضمونه ومراميه توصيفاً للحالات القائمة ومنذ سنوات عديدة في عدد من الدول العربية، وخصوصاً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا، وهو الامر الذي بات فيه جميعها عاجزة عن معالجة هذا الامر، تمهيداً لاستعادة الدولة لسيادتها على كامل اراضيها. وكان اللافت انه لم يتحفظ اي من رؤساء او وفود هذه الدول على البند رغم انهم يدركون جميعاً انهم جزء من هذه المشكلة الكبيرة، والتي لا تقتصر سلبياتها على المجتمعات الموجودة فيها، بل تتعدى الحدود لتهدد امن دول اخرى، او حتى الامن الاقليمي، سواء من خلال دعم الارهاب او التدخل عسكرياً داخل عدد من الدول على غرار ما فعله حزب الله بتدخله العسكري في سوريا ولبنان واليمن والكويت ومصر.
ولا يمكن تجاهل ايضاً تشديد «اعلان جدة» على وقف التدخلات الخارجية مع احترام الدول العربية سيادة واستقلال الدول الاخرى وسلامة اراضيها. وذهب طموح منظمي القمة للدعوة في البيان لتهيئة الظروف لارساء قواعد الامن والاستقرار، والعمل العربي المشترك المبني على الاسس والقيم والمصالح المشتركة والمصير الواحد.
جميل جداً ان يحمل المرء ويعبّر عن طموحاته الكبيرة من خلال ادراج هذه البنود، ولكن يبقى السؤال مركزاً على الخطط والآليات اللازمة لتحقيقها واجبار مختلف الدول على قبولها وبذل مساعيها لتنفيذها داخل مجتمعاتها.
في رأينا ان ما يشجع واضعو «اعلان جدة» على التعبير عن هذه الطموحات هو مضمون الاتفاق السعودي – الايراني، وظهور مؤشرات على استعداد الفريقين للسير قدماً في تنفيذ مندرجاته، مع ترافق الجهود مع تصريات واعدة من قبل وزيري الخارجية السعودي والايراني لحل الخلافات القائمة بسرعة، مع امكانية توسيع مفاعيل الاتفاق من خلال مباحثات على مستوى قيادة البلدين، بعد توجيه دعوة لابراهيم رئيسي لزيارة الرياض.
لكن، ومع الاسف الشديد، فقد ردّ حزب الله، وقبل ان يجف حبر «اعلان جدة» على بند عدم دعم انشاء الميليشيات والمجموعات المسلحة خارج مؤسسات الدولة، بمناورة عسكرية بالذخيرة الحية في منطقة عرمتى جنوب لبنان. ويبدو بأن حزب الله قد سعى لتوجيه عدة رسائل ابرزها:
اولاً، رسالة موجهة الى قمة جدة ليقول فيها ان ما تعلنونه لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد، وبأنه يمكنكم اخذ العلم بأن خيار المقاومة في أيدينا. وبأنها باقية بمعزل عن كل الاتفاقيات والاعلانات، وهي حق لنا في مواجهة اسرائيل. والرسالة الثانية، موجهة للداخل اللبناني، ولافرقاء المعارضة النيابية، الرافضة للانصياع لارادة حزب الله بالتوجه لانتخاب مرشح الثنائي الشيعي سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. اما عن فحوى الرسالة، فهي اشبه بعملية السابع من ايار عام 2008، حيث قام الحزب بعملية احتلال بيروت وجزء من الشوف، في رد مباشر على معارضيه لاقناعهم بقوة السلاح بعد ان فشل في اقناعهم بالسياسية بالكف عن معارضة مشاريعه وهيمنته على الداخل اللبناني، والخضوع لخياراته في انتخاب رئيس جمهورية خلفاً للرئيس اميل لحود، وتتلخص الرسالة الثالثة بتوجيه «اعلان نوايا» واضح وصريح لاسرائيل بأن التطورات الجديدة في الاقليم، بعد توقيع «اتفاقيات ابراهام» والاتفاق السعودي – الايراني لن تغيّر في موازين القوى، ولن تخل في معادلة الرد وقواعد الاشتباك التي اعتمدها محور الممانعة سواء في لبنان او سوريا او غزة. ولقد عبّر عن ذلك نائب امين عام الحزب نعيم قاسم «بأن المناورة هي الاولى من نوعها من قبل الحزب في لبنان، رسالة ثبات وجهوزية ورد على المعترضين، حيث كلامهم لا يقدم ولا يؤخر»، مستبقاً بذلك موقف حكومة تصريف الاعمال ورئيسها الذي قال بأن «الحكومة اللبنانية ترفض اي مظهر يشكل انتقاصاً من سلطة الدولة وسيادتها». واستطراداً فقد اعتبر الرئيس ميقاتي بأن «الاشكالية المتعلقة بموضوع سلاح حزب الله فهي ترتبط بالحاجة الى وفاق وطني شامل، وهو امر يجب ان يكون من اولويات المرحلة المقبلة».
ويشكل موقف رئيس الحكومة هذا اقراراً صريحاً بعجز الدولة وجميع مؤسساتها الامنية عن ممارسة السيادة الوطنية على الجنوب وكل الاراضي اللبنانية، بالرغم من التزاماتها للمجتمع الدولي بتنفيذ واحترام مندرجات القرار 1701. ولا بد للسلطة اللبنانية ان تدرك الآن بأن قرارات حزب الله وتحركاته العسكرية لن تتأثر بدعوة الرئيس الاسد الى القمة العربية، او بخطاب وسلوكية التهدئة المعتمدة من قبل القيادات الايرانية، وذلك على خلفية اظهار نواياهم الحسنة في تنفيذ الاتفاق الموقع مع المملكة العربية السعودية. وفي المحصلة النهائية فإن مناورة حزب الله تؤكد بأنه غير معني بقرارات الجامعة العربية، وبما يجري على مستوى الاقليم، وبأنه مستمر في استراتيجيته المعروفة منذ انتهاء حرب عام 2006.
اما على صعيد القمة فقد كان موقف لبنان خجولاً وضعيفاً، وفيه حالة من استجداء العرب، ولم يحظَ حضور رئيس حكومته بأي اهتمام عربي. كما غابت الارادة لطرح مسألة النازحين السوريين بأبعادها وتبعاتها الاقتصادية والامنية والاجتماعية.وكان من الطبيعي، في ظل ضعف الموقف الرسمي ان لا يتعدى الموقف العربي تجاه لبنان شعارات تضامنية مقتضبة مع دعوات لانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة ومعالجة الوضع الاقتصادي بينما رحلت مشكلة النازحين الى أجل غير محدد، وبالتالي فقد فرضت القمة على لبنان تحمل اعباء مالية واقتصادية لا طاقة له على تحمّلها، بالاضافة الى المخاطر الامنية والديموغرافية، والتي ستهدد مصيره الوطني.
في الخلاصة لقد انتهت القمة العربية باعلان جدة، والذي تضمن جملة دعوات وشعارات لا تتعدى كونها اعلان نوايا، يفتقد الى الآليات وللوسائل اللازمة للتعامل مع مجموعة الازمات المتفجرة في مختلف انحاء العالم العربي. ان عملية المصالحة التي اعتمدتها الدول العربية «المؤثرة» مع النظام السوري، بدعوة الرئيس الاسد لحضور القمة، هي اشبه بمصالحة «تبويس اللحى» وهي لن تؤدي الى اي خطوة واضحة تتخذها السلطة السورية باتجاه المصالحة الوطنية، تمهيداً لحل سياسي او باتجاه اعادة النظر في علاقات سوريا مع دول الجوار العربي، ومع الجارة تركيا. كما انها لن تساهم فعلاً في كسر الجليد واجواء الحذر والريبة المخيّمة على العلاقات السورية – اللبنانية.
من هنا وبعيداً عن اية مغالاة فإن قمة جدة لن تغيّر شيئاً في مسار الازمة اللبنانية، وقد حملت نتائجها المزيد من خيبات الامل للبنانيين، ويصحّ في هذا الامر القول «لم يكن بالإمكان اكثر مما كان» والى اللقاء في القمة المقبلة.