أهم «شخصية» في الوفد التركي الذي رافق أحمد داود أوغلو في زيارته المفاجئة إلى طهران كان «الهاجس الكردي» الذي يزداد سخونة ويقّض مضاجع الأتراك كما الإيرانيين.
بدأت القصة عملًيا في أول فبراير (شباط) الماضي٬ عندما هبطت طائرة بريت ماكغورك ممثل الرئيس الأميركي في «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» يرافقه وفد من المسؤولين البريطانيين والفرنسيين٬ في مطار رميلان العسكري في محافظة الحسكة الذي حولته واشنطن إلى ما يشبه القاعدة العسكرية شمال سوريا.
وجه الإثارة أولاً أنه لم يعلن عن هدف الزيارة٬ وثانًيا أن تصريحات ماكغورك الذي تعمد الذهاب إلى كوباني أيًضا٬ نزلت مثل صاعقة على أنقرة وكذلك على طهران٬ وخصوًصا عندما قال صراحة إنه سيكون للأكراد دور في المفاوضات مع الحكومة السورية وسيكون لهم اعتراف دستوري في سوريا٬ «سوريا المستقبل ستكون ديمقراطية وستحترم حقوق الشعب الكردي وسينص على ذلك الدستور الجديد لسوريا».
واشتعل الهاجس الكردي أكثر فأكثر في تركيا وأيًضا في إيران٬ عندما أعلن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريباكوف في نهاية فبراير٬ أن موسكو تأمل في أن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية٬ وهو ما يتلاقى مع مطالب الأكراد بإقامة إقليم يربط شمال سوريا بشرقها.
وإذا كانت تركيا تحارب منذ زمن بعيد فكرة قيام الدولة الكردية في شمال سوريا كما في شمال العراق أيضا٬ فإن إيران تتوجس خوًفا من أن تتجاوز ارتدادات الهزة التركية الشمال السوري والعراقي إلى الشمال الشرقي الإيراني عينه٬ هذا إضافة إلى التغيير الجيوسياسي العميق والخطير الذي سيحدثه الزلزال الكردي ويقلب حساباتها ورهاناتها في العراق وسوريا والمنطقة استطراًدا.
على هذه الخلفية قفزت تركيا فوق تناقضاتها السياسية وحتى العسكرية مع إيران٬ وخصوًصا على الساحة السورية٬ حيث ليس سًرا أن البلدين يقفان في متاريس متحاربة٬ فإيران تدعم النظام وترسل أذرعها العسكرية إلى القتال في سوريا٬ وتركيا تدعم المعارضة وسبق أن اتهمت بأنها دعمت «داعش» و«النصرة».
ورغم أن طهران لا تكف عن قرع طبول معاداة إسرائيل٬ ولو على سبيل ترويج صورتها في العالم العربي٬ وهذا لم يعد مفيًدا الآن حيث تبرز اتهامات تضعها هي وإسرائيل في خانة واحدة حيال المصالح العربية بما في ذلك القضية الفلسطينية٬ ورغم أن تركيا تعكف على إصلاح علاقات التعاون بينها وبين إسرائيل٬ ورغم ما تثيره العربدة الإيرانية في المنطقة من رياح تعمق الكراهيات المذهبية وتهدد بإثارة الفتنة بين السنة والشيعة٬ فإن زيارة أوغلو إلى طهران جاءت لتتجاوز كل هذه الخلافات والتعقيدات٬ ولتعد بتعاون جديد على المستوى الإقليمي!
وهكذا إذا كان من غير المفاجئ أن يعلن الطرفان٬ بنتيجة زيارة أوغلو٬ الاتفاق على إدارة خلافاتهما المتعلقة بالأزمات المشار إليها٬ فإن من المستغرب وحتى من غير المقبول أن يعلنا مثلاً «أن أمن المنطقة يمّر عبرنا» ولكأنني بهذا الكلام أعيد ما قيل دائًما عن التقاطع الإقليمي التركي الإيراني الإسرائيلي في المنطقة٬ وكأن دول العالم العربي مشاع متروك لهذه الأطماع!
أوغلو خرج من اللقاء مع حسن روحاني ليقول إنه من الأهمية البالغة بالنسبة إلى البلدين إيجاد منظور مشترك بينهما لإنهاء القتال بين أشقائنا في منطقتنا ووقف الصراعات العرقية والطائفية وفتح صفحة جديدة٬ ولكن ليست سوريا وحدها ولا العراق وحده هما الساحة التي تعصف فيها هذه الرياح البغيضة.
ولهذا لا يكفي مثلاً أن يقول روحاني إن البلدين لهما أهداف ومصالح مشتركة وعليهما تنسيقها٬ وإن التعاون مع تركيا سيلعب دوًرا بناًء في بسط سلام وثيق في الشرق الأوسط٬ ولا يكفي أيضا أن يشدد على ضرورة احترام وحدة الدول وسيادتها وأن مستقبل كل دولة يفترض أن يقرره شعبها٬ ربما لأن على إيران أن تنفذ مضمون هذه النظريات٬ وخصوًصا أنها هي التي تتدخل في الشؤون الداخلية لمعظم دول الإقليم ما أدى إلى نشوء كثير من المشكلات والاضطرابات.
وعندما يقول أوغلو إنه يمكن أن يكون بين تركيا وإيران وجهات نظر مختلفة حول المنطقة ولكن التعاون بينهما يمنع دخول الأجانب إليها٬ فإن من الواضح أن البلدين يتوجسان من وجود تفاهم ضمني بين روسيا وأميركا٬ برزت معالمه المقلقة عبر الحديث عن الحديث في موسكو وواشنطن عن التقسيم والفيدرلة٬ هذا في الوقت الذي يعكف فيه الطرفان على إقامة المطارات في سوريا٬ الروس في منطقة النظام العلوية وأميركا في المنطقة الكردية٬ ثم أليست إيران وتركيا دولتين من خارج المنطقة العربية؟
والسؤال هل ينشأ تعاون مفيد بينهما وكيف٬ وخصوًصا في الوقت الذي تتحالف فيه طهران مع روسيا التي مزقت خطط طيب رجب إردوغان في سوريا٬ بينما سعت تركيا إلى التقّرب من المملكة العربية السعودية سواء بالانضمام إلى التحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب الذي أنشأته الرياض٬ أو بفتح قاعدة إنجرليك أمام المقاتلات السعودية التي تستهدف قصف مراكز «داعش» والإرهابيين في الرقة السورية؟
ومع تفاقم التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية على ما يجري في العراق واليمن وسوريا ولبنان والبحرين والكويت٬ ماذا يمكن أن تفعل أنقرة الآن خصوًصا أنها سبق أن أعلنت استعدادها للتوسط بين طهران والرياض٬ ولعل من الضروري طرح السؤال في شكل مباشر أكثر:
كيف يستطيع الفأر التركي أن يلعب في طهران من وراء ظهر الرياض؟
في نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي عقدت في الرياض قمة بين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس رجب طيب إردوغان٬ وأسفرت عن الإعلان عن قيام «مجلس للتعاون الاستراتيجي» بين البلدين٬ وفي مؤتمر صحافي مشترك بين الوزير عادل الجبير ونده التركي مولود جاويش أوغلو قال الجبير إن الهدف الرئيسي لإقامة مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين يكمن في أهمية التنسيق بينهما في جميع الجوانب الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية.
وعندما يعلن أوغلو من طهران التفاهم مع روحاني على الموضوع السوري فهل يعني هذا مثلاً أن تركيا ملتزمة بما سبق أن أعلن عنه الجبير بعد قمة الرياض من أن الزعيمين السعودي والتركي اتفقا على أن الحل في سوريا يجب أن يكون سياسًيا وعلى أساس مبادئ جنيف٬ التي تعني عدم بقاء الأسد وهو ما تعارضه طهران التي تقاتل إلى جانبه؟
الجبير قال يومها٬ وكان جاويش أوغلو يقف إلى جانبه٬ إن مواقف البلدين متطابقة إزاء سوريا وإنه بحث مع نظيره التركي مسائل «التحالف الإسلامي» والتصدي للإرهاب والتدخلات الإيرانية السلبية في المنطقة٬ ولهذا فإن السؤال الذي يبرز الآن كيف سترقص تركيا على الحبال الإيرانية٬ وما معنى هرطقة القول إن «أمن المنطقة يمر عبر تركيا وإيران» ولكأن المنطقة العربية مشاع سائب أمام الثلاثي الإقليمي إسرائيل وتركيا وإيران؟!