IMLebanon

“الإبادة”… وهزيمة الإنكار

 

 

بتعبيرنا المحلي، يعني اعتراف الولايات المتحدة بالإبادة الأرمنية “انتصار الدم على السيف”. على المستوى الإنساني العام هو إعادة الاعتبار للأخلاق والمبادئ في التعاطي مع التاريخ على أمل ان تنسحب يوماً ما على الوقائع الحالية ومجريات الأحداث.

 

“لا يضيع حق وراءه مطالب”. وعلى هذا الأساس انتزع الأرمن بعد 106 سنوات من مجزرة العثمانيين انضمام أكبر قوة في العالم الى 29 دولة، قررت تباعاً أن هناك نحو مليون ونصف مليون انسان استولت “تركيا الفتاة” على اراضيهم وشرّدتهم وقتلتهم، رافضة استمرار أنقرة في سياسة الإنكار وتحمل المسؤولية المعنوية عن احدى أكبر عمليات الاجرام “الموثقة” بتقارير السفراء وصور صحافيين ألمان، وبشهادات من تمكنوا من البقاء بعد دفعهم في “مسيرات موت” الى الصحراء ليصلوا منها الى سوريا ولبنان.

 

هو الاعتراف المبلسم للجراح. المؤسف هنا إصرار تركيا أردوغان، ومَن سبقه طوال قرنٍ كامل، على عدم التصالح مع تاريخٍ دمويّ للانتقال الى زمن يريح النفوس ويحلّ فيه الوئام. فرأيناها تبتدع مراكز أبحاث، وتستثمر في مؤرّخين، وتصرف أموالاً على مجموعات ضغط، وتستخدم الإسلام، للتلاعب بحقائق لا لبس فيها ولتنكر على الأرمن حقهم في صفة “الضحية”، سيما أنّ التعريف الأخير يفترض “قاتلاً” يتحمّل تبعات الفعل الشنيع… والأرمن لا يطالبون بتعويضاتٍ رغم أهليتهم لذلك. فألمانيا كانت، حتى وقت قريب، تدفع تعويضات “محرقة اليهود” وارتكابات النازيين ضدّ الأوروبيين كلّهم. والعراق لا يزال حتى اليوم يدفع للكويت جزاء جنون صدام حسين وعدوانه.

 

تأخّر العالم في الاعتراف بالإبادة، وبالغ في التعاطي معها بمقياس المصالح السياسية. فاعتماد هذا النهج غير السويّ جعل الأتراك يعتقدون، بحكم موقعهم الجغرافي السياسي وأهمية دولتهم، أنّهم قادرون على متابعة سياسات أسلافهم، فحوّلوا على مدى عقود جبال الأكراد أراضيَ محروقة، وقبل أشهر قليلة دعموا أذربيجان بالرجال والعتاد في احتلال “أرتساخ” (ناغورني كاراباخ) وتشريد أهلها الأرمن وتدمير تراثها الموغل في التاريخ، وهم يرسلون مرتزقةً الى أكثر من مكان لتوهّمهم بأنّهم “سلطنة” تملك حقّ الامتداد ولقناعتهم بقدرتهم الأزلية على الإفلات من الحساب.

 

تأخر العالم في الاعتراف بالضحية ذاتها، وليس بحقوقها التي قد تبقى في غياهب النسيان. ولعلّ خطوة بايدن التي أحجم عنها “اوباما المتردّد”، ورفَضَها “ترامب الصفقات”، تدفع تركيا الى معاودة النظر في مسار سياسي وأخلاقي طبع سلوك كلّ القوميين والاسلاميين الأتراك على السواء. وهو مسار دفع ثمن معارضته مثقفون أتراك متنوّرون قتلاً وسجناً واضطهاداً وتعنيفاً، وكان آخرهم الروائي حائز جائزة نوبل للآداب أورهان باموك الذي رفع الصوت عالياً ضد الإنكار فلم يسلم من أشنع الحملات.

 

إعتراف بايدن أكثر من مهم، لكنه لن يقلب الصفحة بين الأرمن والأتراك ما دامت تركيا مصرّة على الإنكار، وما دام واقع أرمينيا الجغرافي والسياسي والسكاني لا يتيح لها فتح حوار ندّي ومتكافئ مع الأتراك. اعترافٌ لن يغيّر المعادلات، لكنه خطوة تسهم في تصحيح ذاكرة العالم، وتحرّض شعباً حياً على مزيد من الإنجاز وحبّ الحياة.