لم تسعَ كتلة نوّاب الأرمن منذ الجلسة النيابية الأخيرة التي خصّصت لانتخاب رئيس الجمهورية، إلى إزالة الغموض الذي شاب وجهة صوتها. وهذا ما عزّز الإعتقاد بذهابه عكس «التيار المسيحي» لمصلحة رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، إلّا أنّ هذا الشكّ لم يقطع بيقين، سوى لدى التوقّف عند صوت النائب جورج بوشيكيان. فنائب زحلة عن المقعد الأرمني «المفصول من حزب الطاشناق»، كما يقول هو، أعلن وجهة صوته مسبقاً، وأكّد أنه صوّت لفرنجية، إنطلاقاً من «هواه» المتعلّق بالحزب الذي رشّحه للنيابة وسمّاه وزيراً في حكومة نجيب ميقاتي. فبدا بوشيكيان متحرّراً من موقف تكتل «لبنان القوي» من ترشيح فرنجية، هذا الموقف الذي أحرج على ما يبدو حزب الطاشناق، فأسكته.
وكان بوشيكيان قد فرض التمايز عن كتلته، منذ أمّن بحضوره نصاب جلسة مجلس الوزراء الأولى التي انعقدت في غياب رئيس الجمهورية، في 5 كانون الأول عام 2022، خلافاً لتوجّه حزبه وموقفه المعلن تجاه حلفائه. وهذا ما خلّف إنطباعاً آخر في زحلة بكونه يسدّد الفاتورة الإنتخابية لـ»حزب الله»، الذي لولاه لما تحقّق لتحالف لائحته الذي ضمّ «التيار الوطني الحرّ» و»حزب الله» الحاصل الثالث.
في المقابل، حقّق فوز بوشيكيان لـ»حزب الله»، ما لم يبلغه مع النائب السابق إدي دمرجيان. فعلى رغم فوز الأخير أيضاً بحاصل لائحة يدعمها «حزب الله» في انتخابات عام 2018 النيابية، لكنه قرّر الإعتكاف في منزله والتزام الصمت المطبق حتى نهاية ولايته. ليس فقط بسبب سقوط رئيس لائحته نقولا فتوش الذي لم يلتزم «الحزب» بعدد الأصوات التي وعده بها، إنّما لكون نيابة دمرجيان التي تحقّقت بـ77 صوتاً، جاءت من خارج المزاجين الأرمني والمسيحي في زحلة، وهو ما أفقد المقعد الأرمني حينها، الصفة التمثيلية.
كان أفضل الخيارات
يتمايز بوشيكيان في حالته، ليس فقط لكونه فاز كمرشح لحزب الطاشناق، بعد انتخابات سابقة خاضها في مواجهته، وإنما لما يتمتّع به في مدينتي زحلة وعنجر من صداقات وشبكة علاقات، فرضته كأفضل الخيارات بالنسبة إلى حزب الطاشناق. فهو بدا قابضاً على المزاج في عنجر منذ انتخابات 2018 التي تحالف خلالها مع «الكتلة الشعبية». حينها افتقد بوشيكيان تأييد حزبه الذي قرّر السير بتحالفاته العمودية مع «التيار الوطني الحرّ» و»تيار المستقبل»، فعقد تسويات جعلت تسمية المرشح الأرمني من حصّة «التيار الأزرق». كان يفترض أن تتلاقى توجّهات قيادة الحزب الذي يتمتّع بأغلبية تمثيلية في البلدة الأرمنية الوحيدة ببحر من القرى السنيّة المحيطة بها، مع إرادة القاعدة من خلال اختيارها النائب بوشيكيان، إلّا أنّ الأخير خسر تأييد هذه القاعدة، أقلّه المعلن، عندما أحرج القيادة بخياراته التي عاكست توجّهات حزبه، فأصبح مستبعداً عن عقر دار أرمن زحلة في عنجر.
والمعروف في المجتمعات التي تؤيّد بأغلبيتها حزب الطاشناق، إنضباطها الذي يشبّهه البعض بما هو سائد داخل بيئة «حزب الله»، حيث يعلو قرار الحزب على كل رأي آخر، ويكون ملزماً حتى لمن يتحفّظون عنه. وعليه، خلّف تمايز بوشيكيان تداعيات عدّة، وأقصاها كان في المجتمع الأرمني العنجري، الذي فقد الأمل بتصويب الخلل التمثيلي السائد في اختيار النائب الأرمني بهذه الدائرة منذ أول إنتخابات جرت إثر خروج الجيش السوري من لبنان. في وقت لم تسهم مواقف حزب الطائفة الأكثري وخياراته وتحالفاته، بتقريبه من المزاج المسيحي الأوسع في الدائرة.
بدا بوشيكيان بخياره الأخير المعلن الأكثر إبتعاداً عن هذا المزاج ، فكان واحداً من نائبين فقط صوّتا في زحلة لمصلحة سليمان فرنجية أحدهما نائب «حزب الله» رامي أبو حمدان، فيما صوّت نواب زحلة الخمسة الآخرون، بينهم أربعة نواب مسيحيين ونائب سنّي لمصلحة جهاد أزعور. ولعلّ السبب الذي جعل بوشيكيان غير محرج بهذه التسمية، إدراكه أنّ الأعراف الزحلية لا تسمح بمعاداة الزعامات العائلية، حتى لو كان مزاجها السياسي العام غير مطابق لها.
نتائج «مار مخايل» في زحلة
ولنعد قليلاً إلى الماضي القريب، إلى الإنتخابات التي وصفت فيها الحالة العونية بـ»التسونامي» المسيحي. تحققّت هذه الحالة في زحلة بالتحالف مع الزعامة العائلية الكاثوليكية المتمثّلة بـ»الكتلة الشعبية». وعلى رغم كل الملاحظات التي شابت أداء رئيسها الياس سكاف حينها، لم تستهول زحلة هذا التحالف الذي أعاد إلى المجلس رموزاً من عهد الوصاية السورية، ومن بينهم حينها النائب الأرمني جورج قصارجي، فأمّنت عاصمة الكثلكة لـ»التيار الوطني الحرّ» المتحالف مع «الكتلة الشعبية» وحزب الطاشناق فوزاً نظيفاً بأغلبية مسيحية، ولكن من دون أن يكون النائب الأرمني قريباً من المزاج الزحلي حينها.
نتائج ورقة التفاهم التي وقّعها «التيار» ورئيسه مع «حزب الله» ظهرت أولاً في زحلة. حينها خسر الطاشناق نائبه الأرمني لمصلحة «القوات اللبنانية»، وهذا ما ترك المجتمع الأرمني المنضبط خصوصاً في زحلة من دون مرجعية نيابية. فاستبعد النائب شانت جنجنيان عن كل المناسبات الأرمنية، ولم ينجح بكسب ودّها طيلة فترة ولايته التي تمدّدت أكثر من ست سنوات، إلا أنّ ذلك لم يكن حافزاً لجنجنيان لإيجاد حيثية مقابلة. وعلى رغم حفاظه على علاقته السياسية مع «القوات»، خرج من البرلمان من دون أي إضافات الى قاعدته الفردية.
في ولاية النائب دمرجيان، تحلّل دور المقعد الأرمني كلّياً، ليستعيد بعض رونقه مع النائب بوشيكيان. فـ»زحلاوية» بوشيكيان الموازية لأرمنيته، جعلته شخصية قريبة من القاعدة. وبقي الواقع على ما هو عليه، إلى أن عاكس صوته أخيراً المزاج المسيحي على صعيد لبنان عموماً. وما زاد في الطين بلّة الخلاف الذي وقع أخيراً بين بوشيكيان ومدير عام وزارته «الكاثوليكي» داني جدعون، وقد تابعت الأوساط الكاثوليكية الزحلية تفاصيله بدقة.
حصل ذلك من دون أن يعيد صوت بوشيكيان الذي ذهب إلى فرنجية في جلسة الإنتخابات الأخيرة، وصل ما انقطع بينه وبين حزب الطاشناق الذي يرجّح أنه صوّت في الوجهة نفسها. فبقي بوشيكيان مستبعداً عن القاعدة الأرمنية الزحلية، ليصبح أيضاً بعيداً بخياراته السياسية عن قاعدته المناطقية. وهذا ما يعيد الحديث في زحلة، إلى الدور الذي كتب لمقعد الأقليات هذا أن يؤديه، في ظلّ تعمّق الشرخ بين المزاج الشعبي وشاغليه، سواء أكان هؤلاء حزبيين أم غير حزبيين.