من الواضح أن ثمة قراراً داخل قيادة الجيش يقضي بالتعامل بحزم وحسم مع الحالة المسلحة في الجرود اللبنانية كافة وخصوصاً عرسال التي يعتبرها هؤلاء بمثابة رهينة بين أيديهم على الرغم من قرار أهلها غير الخاضع للشك ولا حتى للتأويل في ما خص دعمهم اللامتناهي للشرعية ولمؤسسة الجيش على وجه الخصوص. وإلى جانب هذا القرار داخل قيادة الجيش، التعاطي بكل مسؤولية مع الحالات الشاذة التي يُحاول المسلحون فرضها على بعض مخيمات النزوح في محاولة للإحتماء بالنازحين الذين يؤكدون على الدوام، عدم تأييدهم ولا تبنيهم لأي عمل ترتكبه هذه الجماعات بحق لبنان.
نفّذ الجيش عمليات عسكرية واسعة أمس، في جرود القاع ورأس بعلبك، وقصف بالمدفعية الثقيلة والراجمات مواقع المسلحين بعد رصد تحركات مشبوهة للمسلحين الذين أرادوا من خلالها التسلل إلى الداخل اللبناني، وقد تزامنت المعركة التي امتدت حتى ساعات الفجر الأولى، مع تحليق كثيف لطيران الجيش المروحي بهدف تعقّب حركة إنتشار الجماعات الإرهابية في الجرود. ويُضاف إلى هذه العمليات العسكرية، عمليات أمنية أطلقها الجيش على مقربة من الحدود اللبنانية – السورية والتي أدت إلى توقيف العديد من الأشخاص المنتمين إلى تنظيم «داعش»، والذين كانوا يُحاولون تهريب أسلحة والتخطيط لاستهداف أحد مراكز الجيش في المنطقة. وفي السياق عينه، أفيد أمس عن مقتل أبو قاسم التلة المسؤول عن التفخيخ وإعداد العبوات الناسفة في جبهة «النصرة»، اثر تعرضه لإنفجار عبوة ناسفة أمام مقره الكائن في خربة يونين بجرود عرسال، وإصابة معاونه أحمد أبو داوود المعروف بـ «أبو دجانة اللبناني» الذي فقد ساقيه وحالته حرجة.
منذ أن تحوّل الجيش إلى مُستهدف بشكل متواصل على يد الجماعات الإرهابية التي تتحصّن في الجرود ومنها تنطلق لتنفيذ عملياتها ضده وضد لبنان وأهله، اتّبع الجيش في جميع خططه اللاحقة سياسة القضم البطيء والصد السريع. إذ ان كل المحاولات التي تقوم بها تلك الجماعات لإيجاد منفذ إلى عدد من البلدات الحدودية والمنتشرة على خط طول يزيد عن عشرة كيلومترات عند الحدود، جميعها تبوء بالفشل، بينما يتابع الجيش بسط سيطرته على التلال والمرتفعات وإن بوتيرة خفيفة. الجيش على أهبة الإستعداد لأي ظرف طارئ ولأي احتمال يُمكن أن تلجأ اليه الجماعات المسلحة. هذا ما يؤكده أكثر من مصدر عسكري وسياسي، فالتعليمات للعسكريين أوضح من سطوع الشمس «لا تهاون مع أمن الوطن».
كثيرة هي الأسباب التي تدفع قيادة الجيش إلى التعامل بحرية ومسؤولية كعادتها، مع الأحداث التي تطرأ على الساحة الداخلية وتحديداً لجهة التعاطي مع ملف الإرهابيين عند الحدود. الدعم السياسي يأتي في المرتبة الأولى في ظل حكومة وحّدت قرارها في جميع المسائل التي تتعلق بأمن الوطن والمواطن بالإضافة إلى الثقة التي منحتها الحكومة للجيش لناحية تعاطيه مع ملف الإرهاب من دون رحمة، وقد تتوّج هذا الدعم منذ أيّام قليلة، بالزيارة التي قام بها رئيس الحكومة سعد الحريري إلى جنوب الليطاني بمرافقة وزير الدفاع وقائد الجيش. وقد امدّت هذه الزيارة الجيش، بجرعة ثقة كبيرة خصوصاً في ظل تأكيد الحريري على أن مهام الجيش لا تقتصر على منطقة واحدة، إذ أن حماية كل بقعة من هذا الوطن، هي من مسؤولية مؤسسة الجيش وحدها.
منذ فترة وحركة الجماعات المسلحة في الجرود للنفاذ إلى الداخل اللبناني لم تهدأ وذلك بعدما أصبحت شبه مُحاصرة من جميع الجهات أو المعابر التي سبق لها ان دخلت عبرها إلى بعض القرى اللبنانية الواقعة عند الحدود، وآخرها التفجيرات الإنتحارية التي نفذتها في بلدة «القاع» والتي سقط خلالها العديد من الشهداء. واليوم تحاول الجماعات هذه، النفاذ مجدداً مع بدء ذوبان الثلج تمهيداً لمرحلة لن تقل حماوة عن شمس الصيف المُنتظرة، وفي ظنّها أنها قد تتمكّن من إحداث فجوة ما، للتسلّل من خلالها إلى بعض المناطق الحدودية اللبنانية، إمّا بهدف تنفيذ عمليات إرهابية، وإمّا لتثبيت موطئ قدم دائم لها.
يردد البعض أن لدى الجماعات المسلحة ورقة ضغط تستعملها في وجه الدولة اللبنانية تتمثّل بالعسكريين المخطوفين، وأن هذا الأمر يُمكن أن يعوق أي عملية عسكرية للجيش ينوي تنفيذها ضد هذه الجماعات سواء كانت هجومية أو دفاعية. إلا أن السؤال الذي يبرز في هذا المجال، هل الأمر متاح لهذه الجماعات بالتوغّل ضمن الأراضي اللبنانية في ظل الإنتشار الذي يتّبعه الجيش؟. من المفترض أن مسلحي الجرود هم إمّا موجودون داخل الأراضي السوريّة أو عند اطراف جرود عرسال ورأس بعلبك، وتقدمهم بإتجاه العمق اللبناني سيُواجه بخط إنتشار طويل ومتين للجيش من شأنه ليس فقط أن يُصعّب عليهم الأمور، بل أنه سوف يُكبّدهم خسائر فادحة خصوصاً في ظل الإنتشار المُحكم الذي يُنفذه اللواء الثامن، ويردّ من تبقّى منهم على أعقابهم. وعطفاً على الدعم السياسي غير المتناهي للجيش، والذي سيُمكنه من الدفاع بشراسة عن كافة الحدود ومواقعه والنقاط التي يتمركز فيها من دون اللجوء إلى أي تنسيق ميداني مع أي طرف كان، قريباً كان أو بعيداً.
تحضيرات الجيش واستعداداته لكافة الإحتمالات بما فيها المبادرة لإنهاء الوجود الإرهابي على حدوده، يُمكن قراءتها من خلال عمليات التنسيق بين الوحدات وكيفية الإنتشار، بالإضافة إلى شبكة نيران مدفعيّته التي سيكون من الصعب على المسلحين التعامل معها أو اختراق مداها ودقتها. يُضاف إلى هذه العوامل، أمر غاية في الأهمية، بحيث أصبح للجيش قدرة هائلة على إستقدام تعزيزات عسكريّة بسرعة فائقة تُمكّنه من التحوّل من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم بفترة قياسيّة وهذا خيار قد يعتمده في أي وقت وبحسب ما تتطلّب الحاجة.
هو جيش لا يتّكل على فصول ولا على تبدّلات مناخية ولا إقليمية، جيش معني فقط بحماية شعبه وحدوده. جنود يتأقلمون مع الطبيعة، جباههم تُعانق الجبال وأيديهم على الزناد. جنود يؤمنون بأن حماية الوطن تبدأ من هذه النقاط ومن على هذه النقاط يكون الأمر لهم فقط. وهذا ما منحتهم إياه الحكومة الحالية التي تُثبت من خلال مواقفها، بأنها تعمل جاهدة لـ «استعادة الثقة».