مراجعة عسكرية ما بين 2014 و 2015: دروس 2 آب في السياسة والميدان
عن الجيش و«خبزه».. والخطوط الحمر في السياسة
رسم قائد الجيش العماد جان قهوجي في «أمر اليوم»، الذي أطلقه في العيد السبعين للجيش، خريطة الإنجازات التي حققها العسكريون في ساحة المعركة، بدءًا من «غزوة عرسال» في 2 آب 2014، وما تلاها من ارتدادات دموية ومحطّات شرسة، وحدّد المهام الملقاة على عاتقهم على امتداد لبنان ومن أدناه الى أقصاه، وكذلك التحديات التي تنتظر الجيش في الآتي من الأيام.
هي المواجهة الدائمة، حددها «أمر اليوم»، على طول الحدود اللبنانية، من الجنوب وحتى السلسلة الشرقية، للإرهاب المزدوج: إسرائيل، والمجموعات التكفيرية، وما يتفرّع عنها من شبكات وخلايا سوداء تكمن لكل اللبنانيين.
القيادة العسكرية تقرأ، في كتاب العسكريين، جرأة وإرادة وعزيمة واستبسالا، سطّروها في ارض المعركة «لا يخوضون فقط معركة حماية حدود لبنان ولا فقط معركة صيانة استقراره الداخلي ونزع صواعق المجموعات الإرهابية من داخل الجسم اللبناني، بل هم يخوضون، باللحم الحيّ، وبقدرات أقل من متواضعة في بعض الاحيان، معركة حماية مصير لبنان ووجوده، من إرهاب لم يسبق أن مرّ مثيل له في التاريخ القديم والحديث».
القيادة العسكرية تقرأ، في كتاب العسكريين، انتصاراً، حققوه في 2 آب 2014، «لهذا التاريخ وجهان:
هو تاريخ مغمّس بدم الشهداء العسكريين الذين سقطوا جراء غدر المجموعات الإرهابية في عرسال، ومغمّس بمعاناة العسكريين المخطوفين، الذين يشكلون وجعاً دائماً للمؤسسة العسكرية، وجهداً دائماً يبذل بهدوء في سبيل إعادتهم الى ذويهم والى مؤسستهم أحياء سالمين.
وهو في الوقت نفسه، تاريخ الانتصار الكبير الذي حققه الجيش يومذاك. لقد احتوى العسكريون غدر تلك المجموعات سريعاً، وصمدوا وقاتلوا بشراسة واستعادوا المبادرة وانتصروا، فحموا لبنان، وأسقطوا «إمارة الظلام» قبل أن تتمكّن تلك المجموعات الارهابية من أن تبنيها على أنقاض تلك المنطقة. هذا خط أحمر، كانت الامارة، ووفق معلومات واعترافات الإرهابيين الموقوفين، مرسومة ضمن المساحة الممتدة من الضنية الى عكار فطرابلس، وامتداداً حتى عرسال ووصولاً إلى الرقة في سوريا».
في منظور القيادة العسكرية أنه يجب النظر إلى تاريخ 2 آب 2014 من هذه الزاوية ايضاً. «ليتخيل اللبنانيون المشهد. لو انه كتب لتلك المجموعات أن تبني إماراتها، فأي لبنان بعدها؟ أما كانت غيّرت وجه لبنان؟ واما كانت مزّقته؟ لا بل أي لبنان يبقى بعدها؟
القيادة العسكرية تقرأ «خطوطاً حمراً» تجاوزها من يرسم سيناريوهات لتلك المعركة، تلقي على العسكريين ظلامة كبرى، تمس من معنوياتهم، وتبخسهم تضحياتهم التي بذلوها في ذلك اليوم، وما تلاه. «بالعدد القليل للعسكريين الذين كانوا منتشرين في تلك المنطقة، استطعنا أن ننجز الكثير.. لا نستطيع إلا أن نكرر لهؤلاء: اتركوا الجيش يعمل.. ولا نستطيع إلا أن نذكرهم، إن نسَوا، بأن المؤسسة العسكرية فوق كل الحسابات ولن تدخل في متاهات، وهي ليست لطائفة من دون غيرها، ولا لفريق سياسي من دون غيره. بل إن الأهم هو أن وحدتها كانت وستبقى فوق كل اعتبار».
القيادة العسكرية تقــرأ مجموعة من الدروس والعبر المرتبطة بما حصل في 2 آب في عرسال وما تلاه:
ـ فشل محاولة الاستفراد بالجيش في تلك اللحظة وإدخاله في عنق زجاجة، تخنقه وتقيّد حركته. وقد نجح في تجاوز هذا القطوع الكبير.
ـ عدم تصديق «داعش» أو «جبهة النصرة» أو أي من المجموعات الإرهابية، بالإضافة الى بعض الذين ينطقون باسم تلك المجموعات أو يدورون في فلكها.
ـ المجموعات الإرهابية خطيرة، إلا أنها لا تخيف الجيش، وخطرها مهما كبر فإنه يبقى من النوع القابل للاحتواء والتغلب عليه. وبالتالي المبادرة الكاملة في يد الجيش.
ـ الحرب مع هذه العصابات ليست حرباً تقليدية او كلاسيكية، بل هي حرب عصابات. وقد استطاع الجيش خلال التجربة التي مرّ بها في 2 آب وما تلا هذا التاريخ، أن يطور مفهومه العملياتي الى الحدود القصوى، ومواجهته تلك العصابات، وتجانس مع طبيعة المعركة التي كانت مفروضة عليه في 2 آب، وتكيّف معها، ودمج بين الحرب التقليدية الكلاسيكية وحرب العصابات، وأمسك زمام المبادرة بيده ويتحكم بالارض ويحقق إنجازات.
ـ وضع الجيش اليوم في تلك المنطقة من عرسال وعلى طول الحدود المتمركز فيها، ممتاز، والجهوزية عالية كبيرة والإرادة أكبر لردّ أي عدوان ارهابي على المواقع والمناطق المعني بالدفاع عنها. وفي هذا السياق، استطاع الجيش أن يوفر مظلة أمان لأهالي القرى اللبنانية من عرسال الى سائر القرى. والجيش على يقين أن عرسال، وخلافاً للصورة التي يرسمها البعض، هي من بين أكثر القرى التي تنادي اليوم بالجيش. وترفض الإرهابيين.
ـ تمكّن الجيش من تطوير قدرات الحماية لجنوده ووسائله القتالية بالسلاح والإمكانات المتوافرة لديه، حاداً بذلك من الخسائر في صفوفه. وكذلك من تطوير قدراته التحصينية لمواقعه، بحيث بات يعمل وفق منظومة ربط كامل بين المواقع، مربوطة أيضاً بعيون في الجو والأرض وغرف العمليات.
ـ كان يمكن للجيش أن يطور قدراته أكثر فيما لو تسلم السلاح الموعود، ولا سيما في الهبة السعودية.
ـ رغم كل الصعوبات، ورغم الحملة السياسية الشرسة التي يتعرّض لها قائد الجيش وصولاً الى حد التجريح الشخصي، ورغم التشكيك بدوره واتهامه بمحاولة تسييس المعركة وتسخيرها لخدمة مشاريع سياسية تتعلق به، فإنه أدار وجهه عن كل هذه الاتهامات وقرر أن يجعل كل مسؤوليته الأخلاقية والوطنية في خدمة الرسالة المؤتمن عليها بأن الجيش هو آخر مؤسسة حاضنة يمكن أن تشكل ضمانة بقاء لبنان وعدم سقوطه.
القيادة العسكرية تقرأ إقراراً من قبل العالم بأن لبنان هذا، الذي هو أصغر دولة في العالم، قاتل الإرهاب، وحقق انجازات افضل بكثير من دول كبرى تمتلك من القدرات والسلاح أضعاف ما يمتلكه لبنان. وقد سمع قائد الجيش العماد جان قهوجي من الرئيس الاميركي باراك اوباما مباشرة، وكذلك من العديد من قادة جيوش العالم «نحن نقدر ما يبذله لبنان في حربه على الإرهاب، ونرى الإنجازات التي يحققها، سواء في مواجهة الإرهابيين على الحدود، او من خلال ملاحقة الشبكات الارهابية». ومقابل هذا الكلام كان للعماد قهوجي مطلب وحيد «نحن لا نريد منكم أن ترسلوا جنودكم الى لبنان لتساعدوا الجيش في حربه على الإرهاب، جيشنا ليس ضعيفاً، بل هو قادر على المواجهة والانتصار على الإرهاب، لذلك ما نطلبه امران: الدعم المعنوي والدعم اللوجستي». وَوُعد قهوجي خيراً، وجاء السلاح، إنما ليس بالقدر المطلوب.
القيادة العسكرية، تقرأ في كتاب اللبنانيين، التفافاً، واحتضاناً للمؤسسة العسكرية من قبل فئات الشعب اللبناني كلها، إذ لم تمر مرحلة أحيط بها الجيش بتعاطف الناس معه وبالتفاف حوله، بمثل ما يُحاط به في هذه الفترة الحرجة. واما جهد الجيش، قائداً وضباطاً وأفراداً، فهو منصبّ على أن يقابل التحية بمثلها، وأن يحافظ على مصدر قوته الأول والأخير، الذي يتبدّى بهذا الرابط القائم بينه وبين أهله، كاسراً بذلك كل الاسافين والمسامير التي يسعى من خلالها من يكيدون للجيش، إلى كسر معنويات المؤسسة العسكرية ودفعها نحو مزالق خطيرة: أمنية وعسكرية وسياسية.
وكما ان الرابط معقود بإحكام بين الجيش وأهله، وعصي على عواصف النافخين من خلف مصالحهم، بنار تصنيف الجيش في هذا الجانب أو ذاك تارة، والتشكيك فيه وفي توجّهاته تارة اخرى، كذلك هو الجيش: جسم واحد، وبنيان مرصوص، من اعلى رتبة فيه الى ادناها.
تلك هي رسالة القيادة العسكرية، تضعها بين أيدي كل اللبنانيين. وترتكز على ثابتتين:
ـ الاولى: «هناك من يعتقد أنّ في إمكانه الفصل بين الجيش وقائده، فيشيد بالجيش ويعظم إنجازاته وتضحياته، وفي الوقت نفسه، يصوّب على قائده.. هؤلاء مخطئون، لا بل هم مراهنون خاسرون. فالجيش وقائده وحدة متكاملة. جيش بلا قائد، كجسم بلا رأس وبلا روح. وقائد بلا جيش، كرأس بلا جسم، لا حياة فيه ولا معنى له. وبالتالي الهجوم على القائد، هو هجوم في الوقت نفسه، على كل الجيش.. والعكس صحيح».
ـ الثانية: «ان الجيش محصّن امام حملات سياسية منطلقة من اسباب مصالح وحسابات خاصة، تقوم بها قلة قليلة تكاد لا تُذكَر، وبالتالي لن تؤثر عليه من قريب أو بعيد، طالما هو يملك السلاح الأقوى: التفاف الناس حوله، وهنا الأساس. وتبعاً لذلك، فللجيش، قيادة وضباطاً وأفراداً، ان يضع كل تلك الحملات خلف ظهره، وأن يقوم بعمله من دون التوقف عند أية مطبات او معوقات، وهو يقوم بذلك على أكمل وجه، وبما يمليه عليه واجبه وتقتضيه المسؤوليات الملقاة على عاتقه. وللسياسيين، بدورهم، أن يفعلوا ما يشاؤون، فهم أحرار في أن يقولوا ما يريدون، وهذا حقهم ولا يجادلهم فيه أحد».
القيادة العسكرية تورد في خلاصة المشهد، ما يؤكده قائد الجيش للسياسيين «أنا أرى البلد جميلاً وآمناً، ولست متشائماً على الإطلاق، ولست خائفاً من المستقبل. كل اللبنانيين مع الجيش، والمجتمع الدولي معنا، وجيشنا قوي. انتم قوموا بما عليكم من إيجاد حلول للمشكلات الإنسانية والحياتية والاقتصادية والمعيــشية والاجتماعية، ولا سيما النفايات والكهرباء والمــياه، واتركوا الأمن للجيش فهو كفــيل به. اهتموا بقضــايا الناس، والشعب هو صاحب الحــق في كــل القضــايا الاجتماعية، وهذه مسؤولية الدولــة التي عليها وحدها أن توجــد الحلول وتبتدعها. ويخطئ من يفكــر بمحــاولة وضع الجيش في مواجهة حقــوق النــاس ومطالبهم، الجيش لن يكون في مواجــهة أهــله في أي من هذه القضايا. فمَن يواجه الناس بهذه الحقوق هو خاسر حتماً، والجيش لا يريد أن يخسر».