إنطلقت المعركة بضراوة، وتُشكّل عملية «فجر الجرود» قفزةً نوعية في دور الجيش اللبناني الذي أثبَت للعالم أنّه قادر على هزيمة «داعش» والإرهاب متى مُنح الغطاءَ السياسي الداخلي المطلوب.
يتقدّم الجيش في جرود رأس بعلبك والقاع، وتسير الخطة التي وضَعها بشكل صحيح على رغمِ المفاجآت التي تحصل في الميدان، لأنّ العدوّ الذي يواجهه ليس جيشاً نظامياً يَحترم أخلاقيات القتال، أو مجموعة مسلّحة متمرّدة على القوانين، بل هو تنظيم «داعش» الذي سيدوّن التاريخ بأنّه التنظيم الإرهابي الأبرز في القرن الحادي والعشرين الذي أنسى العالمَ زعيمَ تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وكلَّ «القاعدة»، نظراً لارتكاباته غير المسبوقة في حقّ الإنسانية.
وتؤكّد المصادر العسكرية لـ«الجمهورية» أنّ استراتيجية قضمِ التلال تُحقّق نتائجَها بشكل ملموس، إذ إنّ الجيش يتقدّم بسرعة لافتة، لكن أيضاً بحكمة، وهذا يظهر من خلال انخفاض عدد الإصابات في صفوفه في اليوم الأوّل من العملية، لكنّ لجوء «داعش» إلى تفخيخ بعض الطرق والتلال الاستراتيجية يُبطئ العملية، وقد سَقط للجيش شهداء في اليوم الثاني نتيجة انفجار لغم. لكنّ الجيش الذي خاض معركة نهر البارد في ظروف صعبة، باتت لديه الخبرة الكافية للتعامل مع تفخيخات الجماعات الإرهابية، حيث تُفكّك فرَق الهندسة في الجيش الألغامَ وتستكمل المعركة.
ويتقدَّم الجيش تحت غطاء مدفعي وناري كثيف، إذ إنّ المدفعية والطائرات تدكّ مواقعَ «داعش» وتحصيناته، ما يؤمّن حركة القوات البرّية المهاجمة لتكملَ عملية السيطرة على التلال الاستراتيجية، وإنشاء مراكز جديدة متقدّمة تَجعلها على تماس أكثر مع الإرهابيين.
ويُركّز الجيش حالياً، حسب المصادر، على معركة المربّع الأخير الذي يتحصّن فيه الإرهابيون في جرود رأس بعلبك والقاع والذي قد يفرّون إليه، علماً أنّ الملاحظات الأوّلية بعد يومين على انطلاق المعركة تشير الى أنّ ضربات الجيش أفقدت «داعش» قدرته النارية والصاروخية، لكنّه في المقابل لا يُسقط من حساباته بأنّه يحتفظ ببعض الذخيرة للمرحلة الأخيرة من المواجهة، علماً أنّ الجيش يقيم حساباً لكلّ شيء، على رغم تقدّمِه السريع وتشتّتِ قسمٍ كبير من الإرهابيين واستسلامِهم.
وفي هذه الأثناء، تعطي عملية «فجر الجرود» دفعاً معنوياً لعناصر الجيش، وللّبنانيين الذين يؤمنون فقط بالدولة، ولدول العالم التي تواجه الإرهاب والعمليات الإنتحارية، وما صورةُ عَلمِ إسبانيا الذي رَفعه أحدُ العسكريين الى جانب العَلم اللبناني بعد عملية الدهسِ في برشلونة إلّا تعبيرٌ عن أنّ الجيش اللبناني يواجه الإرهاب نيابةً عن كلّ دول العالم، وانتصاره سيشكّل انتصاراً للعالم الحرّ الذي عانى من الإرهاب.
يشكّل الإرهاب قضيةً عالمية، لكنّ لبنان حوّلها إلى معركة إثبات قوّة وقدرة، فقد قال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون خلال متابعته انطلاقَ عملية «فجر الجرود» من غرفة العمليات في اليرزة لقائد الجبهة «أحيّيكم، ولبنان بأسره يتطلّع إليكم، وينتظر منكم تحقيقَ الانتصار»، وهذا يدلّ على أنّ اللبنانيين يعوّلون على انتصار جيشهم لكي يؤكّدوا مجدّداً أنّه قادر على مواجهة كلّ الأخطار والتحدّيات وحيداً، وهذا ما أعلنَته قيادة الجيش رسمياً وبالفم الملآن أن لا تنسيق مع أحد، لا مع «حزب الله» ولا مع جيش النظام السوري.
ويؤكّد الجيش أنّ عقيدته الوحيدة هي الحفاظ على أرض لبنان والدستور والقانون وحماية الديموقراطية. ومع انتهاء هذه المعركة سيُثبت الجيش بما لا يقبل الشكّ أنّه صاحب عقيدة دفاعية صلبة عندما يهاجم العدوّ بلاد الأرز، وأنّه صاحب عقيدة هجومية وقادر على خوض أصعبِ المعارك من أجل صونِ حدود الوطن، وليس للدخول في مشاريع إقليمية لا تمتُّ إلى المصلحة الوطنية بصِلة.
حاوَل كثُر على مدى عقود تغييرَ عقيدة الجيش، منهم من خلال جعلِ فلسطين أولوية تتقدّم على القضية اللبنانية، وآخرون من خلال جعلِ العروبة والوحدة مع دول الجوار تتخطّى أولويات الوطن، لكن في النهاية، أثبتَ أنّه جيش لكلّ لبنان، فهو من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق، ولا يستطيع أن يكون أداةً في يد فئة، بل جيش كلّ الوطن وحارس الـ 10452 كلم مربّع.