IMLebanon

معادلة الجيش والشعب: فرصة حقيقية لبقاء لبنان

 

ليست هذه السطور مقاربة دعائية للجيش، فكاتبها واجه القضاء العسكري في المحاكم واصطدم بسلوك بعض الضباط عبر الإعلام عندما كان سلوكهم خاطئاً أو ظالماً، وانتقد التقصير عندما وقع، لكنّ الواجب يحتّم أيضاً أن نتحدث عن الإيجابيات عندما تظهر، خاصة في هذه الظروف القاهرة التي يعيشها الوطن.

سعت السلطة السياسية إلى وضع الجيش في مواجهة الشعب خلال مراحل متعاقبة، بينما كانت المؤسسة العسكرية بعمقها الوطني الراسخ، تسعى إلى تجاوز آثار السلوكيات السياسية السلبية عليها وعلى المواطنين، ولا شكّ أنّ ملفات الإرهاب كانت الأكثر حساسية وجدلاً وإثارة للتساؤلات لأنّها تحوّلت إلى سلاح مسلّط على كلّ من المعارضين، بفعل سيطرة «حزب الله» على السلطة وتخاذل «زعماء» السنة كما حصل في عرسال وعبرا وطرابلس.. فدفع الشعب والجيش أثماناً باهظة، تركت سجلاً ثقيلاً لا يزال يفرض نفسه في المحاكمات أمام القضاء العسكري وما تحمله أحكامه من ظلم ثقيل في أغلب الأحيان.

 

الجيش في عين العاصفة

 

مع دخول لبنان نفق الانهيار في الطريق إلى جهنم العهد، أصبح الجيش، كما سائر اللبنانيين مضطراً للبحث عن سبل الصمود والاستمرار في ظلّ تخلي السلطة السياسية عن مسؤولياتها، مما حتّم على قائده العماد جوزاف عون أخذ زمام المبادرة والانطلاق إلى عواصم القرار الدولي والإقليمي لتأمين مستلزمات صمود المؤسسة العسكرية، بالتوازي مع إطلاق ورشة إصلاح صامتة داخل الجيش لتخليصه من أعباء التدخلات السياسية التي رفضها القائد في أكثر من خطاب معلن.

 

تشكّل مخابرات الجيش واجهة المؤسسة في التعامل مع الناس والأحداث، وفي المرحلة الأخيرة صدرت تشكيلات لضباط هذا الجهاز في المناطق اللبنانية، ليكتشف المواطنون مساراً جديداً من التعامل المبني على قواعد التواصل والتعاون وتفكيك الألغام الأمنية والاجتماعية، والولوج إلى روح القانون والابتعاد عن التمسك بالسلوكيات الشكلية الملغومة بالرغبات السلطوية في افتعال الأحداث،والتي غالباً ما كانت تؤدّي إلى صدامات نمطية: حالات احتقان، اعتقالات، ظهور مجموعات متطرفة وأخيراً صدامات دامية.

 

مع تحمّل الجيش مسؤوليات تأمين حاجاته ومستلزمات صموده، فرض على الجميع احترام استقلاليته وخياراته الإدارية والاستراتيجية، في ظلّ سلطة سياسية متهالكة تضع أولوياتها في الاستحواذ على ما تبقى من موارد الدولة، وهذا ما عزّز دور الجيش كناظم للاستقرار ببعديه الأمني والاجتماعي، وهو ما يميّز دوره في هذه المرحلة.

 

محاولات مستمرة لتوريط الجيش مع الشعب

 

لكنّ كبراء ودهاقنة السياسة السلطوية الخبثاء لم يكتفوا في هذه المرحلة بصناعة ملفات الإرهاب كما في السابق، بل توصّلت إلى توسيع التحديات أمام الجيش لتضعه أمام امتحانات شديدة الخطورة، كما حصل في «غزوة الطيونة عين الرمانة»، وقبلها في الهجوم الذي شنه عناصر «حزب الله» على عشائر العرب في خلدة، والمُغَطّى بخطاباتٍ عنيفة من أمينه العام للضغط على الجيش والقضاء لفرض مجاراته في سياساته الهادفة إلى شيطنة العشائر وإلى عزل القوات اللبنانية، في وقت يعمل فيه الجيش على تبريد الساحات وإشاعة الاستقرار، ولملة آثار فشل السلطة السياسية في إدارة الكارثة المالية والاقتصادية، من دون أن يعطي أيّ بُعد سياسي أو مناطقي في سلوكه هذا.

ad

 

تحديات غير مسبوقة.. ومبادرات نوعية

 

في مقاربة قضايا الإرهاب، يواجه الجيش اللبناني تحديات غير مسبوقة، مع تجمّع كل عناصر التوتر الاجتماعي والسياسي والأمني والتداخلات الخارجية في طرابلس والشمال، وهو في محاولاته الحفاظ على الأمن من التفلّت ومنع الاختراقات الأمنية، يتبّع سياسة التواصل مع شرائح المجتمع كافة، وتفتح قيادته في طرابلس حوارات عميقة مع دار الفتوى والهيئات والجمعيات الإسلامية والاجتماعية، لتحصين الواقع الاجتماعي، خاصة مع الخلط الحاصل والخاطئ بين المحكمة العسكرية وأحكامها وبين الجيش كمؤسسة وطنية لا تتدخل في عمل القضاء.

 

وفي هذا الإطار، قامت مخابرات الجيش بمبادرة نوعية وخطوة احتوائيةيوم السبت 6 تشرين الثاني 2021 بالتعاون مع دار الفتوى في طرابلس من خلال الحيلولة دون خروج خمسة فتيان إلى سوريا، أعيدوا إلى ذويهم في دار الفتوى بحضور المفتي الشيخ محمد إمام والشيخ سالم الرافعي، اللذان تحدّثا عن مخاطر الانجرار نحو التطرف، وقدّما النصائح للشبان الخمسة ولأهاليهم في كيفية تجنب هذا المسار.

 

هدفت هذه الخطوة إلى تخفيف الاحتقان والحدّ من الهواجس ومن الدعاية المضادة الساعية إلى خلق حالة توتر دائمة بين شريحة من الشباب وبين الجيش على خلفية التراكمات السابقة، وإلى وضع قواعد تعاون لاحتواء المخاطر المحدقة بطرابلس من خلال الشراكة وتقاسم المسؤوليات من الأهل والمؤسسات الدينية والاجتماعية، وهذه تجربة تستوجب العناية والرعاية لتجنّب مفاعيل السعي المنفرد للمؤسسات الأمنية في الأمن الاستباقي، الذي يجب أن يكون هاجس الجميع لحماية طرابلس وكل لبنان.

 

دور المؤسسات الدينية

 

هناك حاجة ملحّة لأن تتقدم دار الفتوى والهيئات الإسلامية برؤية مشتركة حول الموقف من ملفات «الإرهاب»، فتصدر موقفاً واضحاً يضعها في مقدمة الصفوف للتصدي لهذه الظاهرة، ويدفعها نحو تفعيل عمل الأوقاف على قواعد علمية صلبة، لتُظهر التضامن مع الشرائح المسحوقة في المناطق السنية.

 

هناك من يطرح مواربة «ضرورة سحب الجيش» من طرابلس، بذريعة أنّ وجوده لم يعد ضرورياً، وهذا فخّ شديد الخطورة، لأنّ سحب الجيش يعني إطلاق يد جميع الشياطين في المدينة، وقد شاهدنا الآثار المدمرة لغياب دور الجيش في المدينة، فكيف بسحبه منها؟!

 

في ضوء ما تقدّم، فإنّ رؤية الرأي العام حول توجهات قيادة الجيش لا تزال منقوصة وتستند إلى تصورات سابقة غير مبنية على المواكبة المنصفة لسلوك الجيش خاصة في التصدي لضغوط السلطة لدفعه نحو قمع الشعب وما جرى من خروقات سلطوية عبر نفوذ الأحزاب على بعض الضباط والعسكريين، كما حصل في البداوي وغيرها من الوقائع.

 

لا يطرح الجيش لنفسه دوراً سياسياً، لكنّه يقدِّم دوراً وطنياً جامعاً، ويرفض استثمار أحزاب السلطة في الفتن، من دون أن يكون طرفاً في أيّ نزاع طائفي أو مذهبي، ويجمع شتات الناس حوله في سعيهم للبقاء من دون أن يتحوّل البلد إلى غابة يسود قانونها على قانون الدولة وحقوق الإنسان.

 

على المستوى الإسلامي، هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في التحفظات التي يشيعها البعض والانخراط في عملية الحوار المفتوحة مع قيادة الجيش في المناطق، ونفض غبار المراحل السابقة التي كان فيها السياسييون يتاجرون بالوساطة بين الجيش وبين الهيئات والشرائح الإسلامية، فضلاً عن ضرورة التعاون لتوعية الشباب من خطورة الانجراف في تيارات الاستغلال والتضليل الفكري الهادف إلى تفتيت المجتمع وتوريط أهل السنة في صراعات تدمّر مدنهم وتهدم اقتصادهم وتهدّد وجودهم.

 

لا بدّ هنا من مصارحةٍ ضرورية، خلاصتها أنّ القيادة الحالية في الجيش والمخابرات أسقطت الحواجز وأصبح الحوار معها متاحاً بشكلٍ مباشر، وهذه فرصة لإنهاء المتاجرة السياسية بقضايا الناس، وعلى كلّ ذي عقل وبصيرة أن يدرك أهمية هذه الفرصة في إعادة وصل ما انقطع وتدارك ما سيأتي، ونحن مقبلون على المزيد من الأزمات والكوارث.

 

خلل التوازن مسؤولية سياسية: يبقى الجيش الضمانة

 

يحاول البعض تحميل الجيش مسؤولية خلل التوازن الحاصل في البلد، لكنّ السبب يعود لما اقترفته أيادي القوى السياسية التي تدّعي بأنّها سيادية، عندما تخلّت عن وحدتها وتهاونت في مقاومة هيمنة السلاح وشرّعته في اليبانات الوزارية، ورضيت اقتسام السلطة تحت هيمنة «حزب الله»، فسقطت الدولة بيد أكثرية سياسية باتت تمتلك السلطة السياسية التي يخضع لها الجيش.. وعلاج هذه المسألة يكمن في استعادة التوازن السياسي في البلد وامتلاك الجررأة على نزع بند تشريع السلاح الميليشوي من اليبانات الوزارية، وفرض آحادية السلاح الشرعي وليس في محاولة الاستقواء على الجيش في ظروفه القاهرة التي يعانيها، ولا في ادعاء نقائص مصطنعة للجيش.

 

في كلّ الأزمات التي يعالجها الجيش، يُظهر تماسكاً واعتدالاً ونظافة كفّ وحرصاً ورأفة بالمواطنين، من خلال انخراطه في تقديم المعونات وتفهّم الصعوبات الحياتية للمواطنين، فأسقط السدود والحواجز بينه وبين الناس، لتظهر معادلة هي الأقرب إلى الحقيقة والواقع، وهي معادلة الجيش والشعب، لتأمين صمود وبقاء لبنان في خضمّ العواصف الإقليمية والدولية التي تضرب العالم العربي.