يكتسبُ النقاشُ حولَ دور الجيش في مواكبة ثورة 17 تشرين الأول أهمية كبرى، لأنه يلعب دوراً محورياً في تأمين الإستقرار الداخلي وحفظ التوازن على الأرض، كما أنه محطّ رهان طرفي الصراع في لبنان: أحزاب السلطة في دفعه نحو خيار القمع والإنحياز لها ليكون كغيره من جيوش الأنظمة العربية الطاغية، والثورة، في أن يحافظ الجيش على ما أعلنه العماد جوزاف عون بحماية المتظاهرين السلميين والإنحياز إلى إرادة الشعب.
أبرز أهداف الثورة: سلاح شرعي واحد
«من أبرز شعارات ثورة 17 تشرين الأول التمسك بشرعية سلاح الجيش اللبناني ورفض أي شرعية لأي سلاحٍ آخر.. وأن الجيش والشعب يدٌ واحدة.. وأن الجيش هو حامي الثورة..».
بهذه الطروحات إنطلقت الثورة، ولاقاها قائد الجيش بإعلانه حماية المتظاهرين المدنيين السلميين. هكذا كانت المعادلة في الأساس، ولكن مع دخول الثورة شهرها الثاني، وهذا خلاف توقعات وإحتمال أحزاب السلطة، بدأت حملاتُ الضغط السياسي الشديد تزدادُ على العماد عون، ولم يعد سراً أن التيار العوني و«حزب الله» طلبا منه فضّ الإعتصامات وفتح الطرقات بالقوة، وإستعمال القوة المفرطة والعنف لإنهاء التحركات المعارضة في الشارع.
في المقابل، صدرت عن العماد عون، بخلفيته الحريصة على منع إراقة الدماء والبعيدة عن التعصب الطائفي والمذهبي، إشاراتُ رفضٍ لضغوط أحزاب السلطة، وهذا دفعها لوضع إستراتيجية تهدف إلى حصاره وتكبيل حركته وتحويل النفوذ السياسي داخل المؤسسة العسكرية لأحزاب السلطة، إلى مراكز قوى تدفع نحو إحداث الإختراقات وتسمح بإستعمال القمع ضد الثوار.
يعود السبب الأساس للإصرار على توريط الجيش في مواجهة الثورة، إلى فشل غاراتِ البلطجة في إنهاء التظاهرات، ولفشل التيار العوني في إستعراضات القوة الميدانية، التي بلغت ذروتها وفشلَها في تظاهرة الدعم للرئيس ميشال عون أمام القصر الجمهوري.. ومن الواضح أن «حزب الله» لا يستطيع إستخدام سلاحه مباشرة في مواجهة الناس، لأسبابٍ متداخلة، لذلك لا يبقى أمام هذا التحالف سوى المزيد من الضغوط لزجّ الجيش في المواجهة.
مؤشرات الخطر
تسربت جملة مؤشرات خطرة إلى المشهد اللبناني، يجب الوقوف عندها، وأهمها:
1- تصاعد عمليات القمع العنيفة:
تفاقمت مظاهر القمع الشديد الصادرة عن ضباط وعناصر في الجيش اللبناني ضد الثوار، وبدأت من البداوي حيث كادت أن تقع مجزرة حقيقية لولا مسارعة القنوات إلى فتح بثها المباشر من أرض الحدث، إلى العبدة حيث لم يوقف الكارثة سوى تدفق أكثر من ثلاثين ألف مواطن ومواطنة ملأوا ساحة العبدة وأوقفوا الفتنة، مروراً بجل الديب والذوق، حيث شهدنا عمليات السحل والضرب، وليس إنتهاء بتعلبايا وبلدات البقاع.. كل هذه المناطق وغيرها شهدت إنتهاكاتٍ موصوفة، قادها ضباطٌ بأوامر ميدانية مخالفة لأوامر العماد عون بحماية المتظاهرين السلميين.. وخلافا لتعهدات رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري أيضا بحمايتهم.
2- عمليات الإغتيال المباشر
كانت عملية إغتيال الشهيد علاء أبو فخر هي الأخطر، ولكن سبقتها خروقات أخرى لا تقلّ خطورة، لا بدّ من الوقوف عندها، ليس لتسجيل النقاط، ولكن لحفظ الوقائع وتوضيح الصورة وضرورة المعالجة لوقف هذه الخروقات، نوردها كالآتي:
إطلاق النار على المدنيين في البداوي، حيث سقط ضحايا، أحدهم الشهيد الحي عادل محرز الذي أصيب إصابات قاتلة وهو يرقد في المستشفى بحالة شلل لإصابته في العمود الفقري، وفتحي مخيبر المصاب برصاصتين في البطن ويعاني من تمزق في الأمعاء وحالته صعبة وآخرين تماثلوا للشفاء.
إطلاق النار والإعتداء على المتظاهرين وعلى رئيس بلدية ببنين الدكتور كفاح الكسار في العبدة.
إقتحام مسجد عمر بن الخطاب في بلدة تعلبايا البقاعية وضرب النساء والأطفال فيه، فكان التنادي من مكبرات الصوت في المسجد وكانت مواجهة مؤسفة شاهدها اللبنانيون مع إغفال الإعلام للسبب الأساس لتلك المواجهة، ألا وهي إقتحام المسجد والإعتداء على المصلين فيه بشكل مروّع.
هذا السياق يوصل إلى إستنتاج واحد: وهو أن هناك خللاً في سلوك بعض الضباط بات شديد الخطورة على الجيش والوطن.
{ إن ما كشفه الثائر خلدون جابر والشبان الذين تم «إختطافهم» من قبل مخابرات الجيش وظهروا على شاشة قناة الجديد، من توقيف غير قانوني وترهيب وتعذيب والإكراه على الإقرار بالولاء السياسي لميشال عون.. يطرح أسئلة شديدة الخطورة عن حقيقة هذه الممارسات.. فهل تجري محاسبة المرتكبين من ضباط وعناصر؟؟
كيف يكون هناك جيش يحمي وجيش يقمع؟!
4- مهمّة الجيش.. للتذكير فقط
وفق قانون الدفاع الوطني (المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته)، يقوم الجيش بثلاث مهمات: دفاعيّة، أمنيّة، وإنمائيّة، وتهدف هذه المهمات الى الدفاع عن الوطن، والمحافظة على السيادة وعلى سلطة الدولة، وحماية الدستور، وحفظ الأمن والاستقرار، والمساهمة في تأمين الاستقرار الاجتماعي والتنمية.
وهذا يعني أيضاً:
إن الجيش مؤسسةٌ هدفـُها الأول الدفاع عن الوطن وعن الشعب وحمايته، بإعتباره مصدر السلطات، وبإعتباره مصدر الشرعية ومصدر التمويل للجيش في الرواتب والحاجات الأساسية.
إن الجيش مؤسسة تخضع للقانون ولا يجوز أن تقع في إنتهاكات لحقوق الإنسان، كالتوقيف غير القانوني والتعذيب والإنحياز السياسي.
إن العمل في الجيش هو وظيفة عامة هدفها خدمة الشعب، وليس إمتيازاً يبيح الإستعلاء والتكبر وفرض السطوة، وأن اللبنانيين متساوون في الحقوق والواجبات، وفي قداسة الدم وحرمته، وفي الحق بالكرامة.
إن اللبنانيين جميعاً سواسيةٌ أمام القانون، وليس هناك تمايزٌ لعسكريّ على مدنيّ، وليس للجيش إمرةٌ على المدنيين، إلا ما يفرضه القانون وتفرضه موجبات العمل العسكري والأمني. والتمييز بين العسكري والمدني في الحقوق والواجبات، مسألة غير موجودة إلا في الأنظمة العسكرية، وتأتي في أساسها التاريخي من أنظمة تمييز عنصرية وطبقية، منذ عصور الرومان وما تلاها..
أن ولاء الأجهزة الأمنية يجب أن يكون للوطن والدولة، وليس للأحزاب والزعامات والنواب، ولا يجوز أن يلعب الضباط أدواراً خدماتية، لهذا النائب أو ذاك المسؤول، على حساب فئات أخرى من المواطنين.
5- أسئلة حادّة وجادة
في ضوء هذه الثوابت، تُطرح اجملة أسئلة حادّة وجادة:
ماذا يعني أن يكون هناك عقيد إسمه (ج. غ)، إنتشرت صوره عبر كل وسائل التواصل الإجتماعي، وهو الضابط في مخابرات الجيش، ورئيس مكتب بعبدا، كما ذكرت كثير من الصفحات ذات الصدقية، يتنقل في الساحات ويقوم بإستفزاز المتظاهرين بإشاراتٍ فاضحة للجمهور، وهو يقود عمليات التوقيف غير القانوني وعمليات التعذيب، ويحرّض عبر وسائل التواصل الإجتماعي ويعلن مواقف سياسية شديدة التطرف والإنحياز، ويستمر في أفعاله على مدى أسابيع، من دون حسيبٍ أو رقيب؟!
ماذا لو صدق الحديث عن إطلاق المحكمة العسكرية سراح المجرم الذي حمل السلاح علناً في جلّ الديب، وأطلق النار وأوقع الضحايا، بدعوى دفاعه عن النفس، رغم وضوح الأفلام المنشورة بأنه هو من نزل بسلاحه وأطلق النار، بينما عناصر قوى الأمن تتفرج عليه بدون أن تحرّك ساكنا، لا بل إنه هؤلاء العناصر تحركوا فجأة لحمايته من غضب المواطنين الذين تعرضوا لإطلاق النار، كيف يمكن فهم تصرّف هؤلاء؟؟
كيف يمكن الوثوق بقضاءٍ بات بعض قضاته يغطي إرتكابات زعران الشارع، ويركز على كل من يعارض الحكم توقيفاً وظلماً.
لماذا يحمي الجيش عصابة مسلحة؟
ماذا يعني أن يسخّر الجيش مئات العناصر وعشرات الآليات لحماية المجموعة المسلحة التي جابت جلّ الديب وحاصرها الأهالي في «مبنى المختار» لتخرج رافعة شارات التيار الوطني الحر، بدل إلقاء القبض عليها! بينما يقوم الجيش نفسه، بملاحقة الثوار السلميين، في جل الديب والذوق وباقي المناطق بأبشع الأساليب وأكثرها قمعاً ودموية.. ولماذا يبقى أعضاء هذه المجموعة العونية المسلحة طلقاء وغير ملاحقين رغم فداحة الجرم الذي إرتكبوه؟
في خضمّ هذه الثورة العظيمة، ينتظر اللبنانيون من الجيش وقائده العماد جوزاف عون الالتزام بما أعلنه عن تمسكه بحماية المتظاهرين السلميين.
لكن مستوى الخروقات بات يتوسع بشكلٍ خطر، ويوجب معالجة مباشرة لا تحتمل التأجيل، خاصة أن كل المؤشرات تؤكد وجود قرارٍ سياسيّ لدى أحزاب السلطة بدفع الجيش وتوريطه في قمع الثورة. ونحن نعلم أن العماد جوزاف عون هو ضمانة عدم الوقوع في هذا المنزلق.
(يتبع حلقة ثانية)