الاشتباك الأخير بين «فتح» و«أنصار الله»، لم يكن الأول في المية ومية. المخيم شكل ساحة صراع وتصفية حسابات بين الطرفين، تطايرت نارها إلى المحيط. استعارها الأخير، دفع الجيش إلى التدخل مباشرة والدخول إلى جزء منه للمرة الأولى منذ 27 عاماً
لم يكن متوقعاً أن ينتهي الاشتباك الأخير بين حركتي فتح وأنصار الله في مخيم المية ومية (شرق صيدا)، بدخول الجيش ولجم الطرفين. اقتصر الاهتمام في البداية، كما في كل اشتباك، على محصّلة الكر والفر التي اعتادها سكان المخيم ولمن ستكون الغلبة في الميدان والقرار. حتى صباح أمس الثلاثاء، كانت قوات الأمين العام لـ«أنصار الله» جمال سليمان قد تقوقعت في مربعها وانسحبت من النقاط التابعة لفتح التي كانت قد سيطرت عليها في الهجوم المباغت الذي شنته على مراكزها منتصف الشهر الجاري. في المقابل، احتفظت قوات الأمن الوطني الفلسطيني بالسيطرة على مبنى قيد الإنشاء كانت تتمركز فيه «أنصار الله» بجوار حاجز الكفاح المسلح عند مدخل المخيم. لكن المشهد تبدل تماماً مع ساعات الظهر.
قرر الجيش اللبناني ضبط الوضع الأمني وتسلم الحاجز الواقع عند مدخل المخيم كمرحلة أولى ثم الانتشار عميقاً حتى وسطه في مرحلة لاحقة. وبحسب مسؤول أمني، فإن «الإجراءات التي سيتخذها الجيش ستكون كفيلة في عودة الأمور إلى نصابها وإنهاء الحالة العسكرية التي يعيشها المخيم». ويضيف المصدر: «ثمة منطقة فاصلة بين المية ومية من جهة، وعين الحلوة وصيدا من جهة أخرى. ولا مبرر لبقائها خارج سيطرة الجيش، وخاصة أنها تقع على تلة مشرفة».
أولى بوادر دخول الجيش، وصول قوة من اللواء الأول واستخبارات الجيش ظهر أمس، تمركزت في محيط حاجز الكفاح المسلح عند مدخل المخيم، وانتشر عناصرها في الأبنية المحيطة. قائد القوة طلب من عناصر قوات الأمن الوطني المسلحين التراجع نحو الخلف. بدا فتحاويو المية ومية في حال ارتباك، وكأنهم فوجئوا بجدية الخطوة وسرعتها. «يعني اتفقتم؟». سأل مسؤول المخيم في قوات الأمن الوطني أبو محمد عباس الضابط المسؤول، في إشارة إلى الاتفاق السياسي والأمني بين القيادتين الفلسطينية واللبنانية على خطوة دخول الجيش. سريعاً وبسلاسة، التزم الجميع أوامر الجيش. غاب المسلحون عن أعين الجيش وأزيلت رايات فتح عن الحاجز والمباني المحيطة فيه. ووسط الانشغال بالإعداد اللوجيستي لتسلم الحاجز والنقاط الأخرى وتثبيت الآليات والقواطع الحديدية، ظهر خلاف حاد بين قياديَّين من فتح حول المناطق التي سيتمركز فيها الجيش. أحدهما وافق على قرار الجيش بالدخول إلى الحي الغربي من المخيم، فيما اعترض الآخر، لأن ذلك التمدد الواسع يعني سيطرة الجيش. في المحصلة، كان للجيش ما أراد. فبعد انتشار مخابرات الجيش أمس، من المنتظر أن تدخل قوة من اللواء الأول إلى الحي الغربي من المخيم في غضون يومين.
من التلة المرتفعة حيث يقع المخيم، راقب سكانه تقدم الوحدات المؤللة لمئات الأمتار من الحاجز الواقع عند مدخل ما يعرف بالحي اللبناني من المخيم، باتجاه مدخل الحي الفلسطيني. للمرة الأولى، عبرت آليات الجيش وجنوده داخل الحي اللبناني الذي كان ينتهي عند مدخله حضور الدولة. في سفح التلة عند تقاطع يعرف بـ«الإسماعيلية»، تجمعت وحدات الجيش وعناصر الاستخبارات بانتظار الصعود نحو المخيم. بالتزامن مع تجمع الجيش، تجمع عدد من أهالي المخيم حول حاجز الكفاح المسلح ومقر الأمن الوطني. تباينت مواقفهم من الانتشار. بعضهم فرح بدخول الجيش لأنه «ضمانة لاستتباب الأمن وحماية سكان المخيم وجيرانه من الاشتباكات المتكررة». آخرون اعتبروا أنه «في حال تسلُّم الجيش حاجز الدخول إلى المخيم، يعني ساعات طويلة من الانتظار لتفتيش السيارات والمارة، حتى النساء والأطفال».
وبرغم نية الجيش لحماية الفلسطينيين واللبنانيين على قدر سواء، تسللت العنصرية بصلافة في الحد بين المية ومية ولاجئيها. الهبة المستجدة لعدد من الأحزاب لزيارة بلدة المية ومية التي يقع المخيم عند أطرافها، لم تبدد النيات العنصرية، كأن سكان المخيم شركاء في اضطراب الأمن وليسوا في الحقيقة أبرز ضحاياه. وفدان من التيار الوطني الحر وحزب الكتائب زارا البلدة الأسبوع الفائت، طالبا بـ«إزالة التعديات العمرانية على أملاك أهالي البلدة ونزع السلاح من سكان المخيم بسبب الأضرار التي تنجم عن الاشتباكات المتكررة». نائب الأشرفية نقولا الصحناوي قال: «ليعطونا أراضي المية ومية التي أخذوها وسلبوها للمخيم وليسحبوا المنظمات المسلحة، وإذا ممكن أيضاً اللاجئين الفلسطينيين». أما نائب المتن إدغار المعلوف، فقد طالب القوى الأمنية بـ«مراقبة نقل الأحجار والتربة، لمنع تمدد المخيم». أما كاهن المية ومية، فقد ذكّر الضيوف بأن المخيم «يحتل أعلى تلة في البلدة وتطل على قبرص وأن مخيم عين الحلوة يحتل مساحة ثلثي البلدة عدا عن مخيم المية ومية، من دون أن تنال البلدية وأصحاب الأملاك تعويضات».
لا تتعدى مساحة مخيم المية ومية الكيلومتر الواحد من أصل أكثر من كيلومترين ونصف كيلومتر، هي المساحة الإجمالية للبلدة. بين الخمسينيات وحتى عام 1982، كان التجمع الفلسطيني يقع في الجهة الشرقية للبلدة ويسمى «المخيم التحتاني» الذي تمدد حول قصر قديم وإسطبل للخيل، قامت وكالة الأونروا باستئجار أرضهما لمدة 99 عاماً. لكن احتلال المخيم من قبل القوات اللبنانية التي دخلت المنطقة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، ثم انتشار الجيش اللبناني فيه عام 1991، هجّر سكانه إلى الجهة الغربية، حيث أقاموا التجمع الحالي المعروف بـ«المخيم الفوقاني» على أملاك خاصة تعود لأهالي البلدة. عدد من المالكين رفعوا دعاوى قضائية على المقيمين، من دون تنفيذ أحكام إزالة التعديات.
من المنتظر أن تدخل قوة من اللواء الأول إلى الحي الغربي من المخيم في غضون يومين
أخيراً، ساد شعار «الحقوق الضائعة»، على غرار ما دعا إليه المستشار العام للكتائب فؤاد أبو ناضر من «تطبيق القرارات القضائية التي قضت بإخلاء البيوت والأملاك المحتلة من الغرباء». لكن ماذا تعني إزالة التعديات؟
يجزم مصدر أمني فلسطيني بأن رفع التعديات «يؤدي حكماً إلى تهجير السكان الذين يقيمون في البيوت القائمة على الاملاك المعتدى عليها. وهم سيجبرون إما إلى الهجرة إلى أوروبا أو إيجاد سكن بديل في صيدا أو سواها». علماً بأن سكان المخيم لا يتعدون خمسة آلاف نسمة، يتكدسون في أقل من كيلومتر واحد. لكن ما سبّب فتح ملف الملكيات الآن؟ بعيداً عن هدف الجيش في ضبط الأمن المتفلت الذي يهدد صيدا وشرقها وطريق الجنوب، تنتشر الشائعات فلسطينياً، حيث لا يصدق كثيرون حسن نيات القوى السياسية اللبنانية.
لا يضير الدولة ضبط الأمن في المية ومية الذي اتسم طويلاً بالهدوء قبل أن تتكرر الاشتباكات بين «أنصار الله» و«فتح» في السنوات الأخيرة. فما مصير القوى المسيطرة عسكرياً في المخيم بعد دخول الجيش؟ «بالنسبة إلى فتح، لا مشكلة لديها بدخول الجيش إلى كافة المخيمات، كما صرّح في وقت سابق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. أما بالنسبة إلى سليمان الذي يعتبر المية ومية عرينه الأوحد، فالاحتمالات بشأن مصيره مفتوحة، وخاصة أن ملفاته لدى القضاء اللبناني تضخّمت أخيراً»، قال مسؤول فلسطيني.