IMLebanon

الجيش في سياقه اللبناني

تتفق حملات تنزيه الجيش اللبناني وإبعاده عن اي رقابة او مساءلة عامة، مع سلوك عام ينحو الى اضفاء صفات القداسة والعصمة والألوهة على اشخاص السياسيين وعلى وقائع يُفترض ان تكون في صميم النقاش المفتوح والعلني في دولة تزعم انها تلتزم معايير الحكم الديموقراطي.

الردود العنيفة المنطوية على شتائم مقذعة وعلى التوعد والتهديد التي قوبلت بها الأصوات المطالبة بالتحقيق في ما جرى اثناء مداهمة الجيش لمخيمات اللاجئين السوريين في عرسال مطلع الشهر الحالي، وضعت تضحيات القوات المسلحة وآخرها اصابة عسكري في عينيه اصابة خطرة قد تُفقده النظر، في مقابل انتهاك حقوق اللاجئين والتسريب المتعمد لصورهم ممددين نصف عراة على الأرض أو مكدسين وعلى ظهورهم علامات الضرب. ووضعت مقتل اربعة معتقلين في الحملة هذه وفي الوقت ذاته، تحت التعذيب في معسكر للجيش في مقابل اولوية التصدي للإرهاب الذي ما زال يهدد لبنان.

تتناغم لعبة المتقابلات هذه مع رفض الاعتراف بأولوية الرقابة والمحاسبة والمساءلة كآليات مؤسسة لأي اجتماع سياسي حديث، سواء على مستوى السلطة السياسية او على اي مستوى آخر. وتتناسق مع حالة الفصام العميق الذي يعيشه كثير من اللبنانيين بين صورتهم الذاتية عن انفسهم والتي غذّوها على امتداد عقود من الكذب على الذات واختراع ادوار وأوهام عن ماهية بلدهم وهوياتهم وموقع لبنان في العالم، وبين دمار اجتماعهم واقتصادهم ودولتهم (بمؤسساتها كافة) وبيئتهم التي كانوا يتغنون بها. محاولة لأْم وعلاج الجرح النرجسي من خلال تقديس كائن تختلف صفاته المتخيلة عن حقيقته الواقعية، ليست بالممارسة التي اجترحها اللبنانيون المنكوبون بأحوالهم الراهنة. لكنها تتساوق تمامًا مع ضرورات التعمية على الحقائق وزمن «ما بعد الحقيقة» و «الوقائع البديلة»، حيث تتساوى كل الروايات ويختار كل «مؤمن» ما يناسب مزاجه وما تضخه آلة التعبئة الأيديولوجية التي يتبعها.

ولا يحتاج المرء الى كتاب من 522 صفحة مثل ذاك الذي اصدره الصحافي نقولا ناصيف («جيوش لبنان- انقسامات وولاءات») ليتعرف الى عمق النفوذ الطائفي والولاءات الخارجية والداخلية التي تحرك المؤسسة العسكرية وتدرجها ضمن النظام اللبناني. هيمنة الدول والمنظمات الأجنبية التي كانت ظاهرة الى العيان بين ستينات القرن الماضي وبين خروج القوات السورية من لبنان، أخلت المكان أمام عودة مظفرة للعصبية الطائفية. ولانشقاقات الجيش اللبناني السابقة اسباب ما زالت حاضرة على رغم تبدل الأسماء والأزمان.

لذا، ليس انتقاد زج الجيش في عمليات غير محسوبة سياسياً هو ما يهدد وحدته، وفق ما يعتقد «انصار الجيش» ومن في حكمهم، بل ان الخطر عليه يكمن من محاولة الطبقة السياسية استغلال اختلال التوازن الحالي (ضعف الزعامة السنية على وجه التحديد) لتوظيف المؤسسة العسكرية في سياق الغلبة السائدة لمصلحة قوى «الممانعة» ومشروعها لاستتباع لبنان نهائياً. ومن يدعو الى «إجماع وطني حول الجيش» يفترض به الانتباه الى ضآلة ما يُجمع اللبنانيون عليه وحوله، في زمن تنهار فيه الخرافات من نوع «العهد القوي» و «بيّ الكل» و «مكافحة الفساد».

وشعارات من نوع «الضرب بيد من حديد» وطقوس عبادة «البوط العسكري» قابلة للانقلاب بسهولة فائقة من كونها ادوات للتعبئة ضد الإرهاب الى مبررات للقمع الداخلي والقضاء على بقايا الحريات العامة والمساحات المشتركة بين اللبنانيين. لا تغيب هذه الحقيقة عن بال احد بيد ان اللاعبين اقل كفاءة وذكاء من الإمساك بناصية هذه اللعبة.