لا تكتمل مشهدية أي ثورة في العالم إذا لم تلتحم كل العناصر التي تؤدي إلى نجاحها، في وقت تحاول السلطات قمع الثورات عبر استعمال أدواتها القمعية والتي تتمثّل بشكل أساسي بالأجهزة الأمنية.
بدا المشهد في لبنان منذ ليل الخميس ثورياً بامتياز، ففي الساعات الأولى لإندلاع الإنتفاضة الشعبية حاول بعض المخرّبين حرفها عن مسارها وإستعمال العنف عبر التعرّض للقوى الأمنية وإثارة الشغب والإعتداء على الأملاك الخاصة، لكن سرعان ما تم تدارك الموضوع والتنبّه لما يُخطَّط والحفاظ على سلمية التحركات.
وإذا كان مشهد المدن الثائرة من طرابلس إلى البترون وجبيل وجونية وبيروت وصولاً إلى صيدا والنبطية وصور وزحلة وقرى البقاع هو ما طبع الثورة الشعبية، إلا أن هناك مشهداً جميلاً أيضاً رافق الأيام الماضية وهو اللحمة بين الشعب والجيش والذي تكرّر في أكثر من مناسبة.
على الطرق التي تحصل فيها إعتصامات، يقف عناصر الجيش اللبناني درعاً حصيناً لحماية المتظاهرين، ولم يتعبوا مثلهم مثل الشعب الذي نزل إلى الشوارع، المعنويات مرتفعة والجيش إلى جانب شعبه وهو الذي ينال القسم الأكبر من التحيات، خصوصاً أن أغنية “تسلم يا عسكر لبنان” للشحرورة صباح تصدح في كل مكان.
وكذلك، تكرّر مشهد تقديم الورود من قبل المتظاهرين لعناصر الجيش في أكثر من منطقة وسط هتافات “ما بدنا جيش بلبنان إلا الجيش اللبناني، وما بدنا سلاح بلبنان إلا سلاح الجيش اللبناني”.والجدير ذكره أن لعناصر الجيش اللبناني مطالب هي نفسها مطالب الشعب، ويذكر الجميع أن آخر حراك شعبي حصل في الشارع هو حراك العسكريين المتقاعدين.
ويراهن بعض أهل السلطة على استعمال الجيش والقوى الأمنية كأداة لقمع التظاهرات السلمية مثلما يحصل في بلدان مجاورة والحجة جاهزة وهي فتح الطرق أمام الناس، في وقت تركت حادثة تصدي الجيش لمسيرة الموتوسيكلات التي أتت من الضاحية إرتياحاً لدى الأوساط الشعبية ولاقاها الشعب بتقديم التحية إليه في كل المناطق.
وفي السياق، تؤكد أوساط أمنية أن كل الأخبار التي تخرج بين الحين والآخر عن أن الجيش سيستعمل العنف ضد المتظاهرين لا أساس لها من الصحة وهي محاولة لخلق فتنة بين الجيش وأهله، وتاريخ الجيش اللبناني ليس قمعياً ولم يكن يوماً في هذا الوارد، وما يحصل في بعض المناطق من إحتكاكات تفرضه طبيعة الأرض لكن من دون إستعمال القوة.كما وتشير إلى أن الجيش اللبناني ليس جيش نظام بل هو جيش الشعب والدولة ولا يستطيع أحد إستعماله كأداة قمعية مثلما يروّج البعض.
وتلفت الأوساط إلى أنه منذ اليوم الأول لإندلاع شرارة الإحتجاجات كان قرار الجيش واضحاً وهو حماية التظاهرات، وفي المقابل الحفاظ على الأملاك الخاصة والعامة وعدم المسّ بالأمن الوطني. وتُشدّد على أن تصرفات الجيش تدلّ منذ يوم الخميس على أن التظاهرات بأمان وقد وصلت الرسالة للجميع بأننا نحمي المتظاهرين من أي اعتداء، والتصدّي لمسيرة الموتوسيكلات أكبر دليل على ذلك، وبالتالي لا داعي للخوف أو الهلع لأن للناس ثقة كبيرة بالجيش وقرار الحماية حاسم.ولا تتخوّف الأوساط الأمنية من مشهدية شارع في مقابل شارع آخر، إذ تشير إلى أنه بعد العام 2006 كان هناك شارعان يتظاهران، 8 و14 آذار، وكانت الأوضاع السياسية متوترة أكثر من اليوم وقد استطاع الجيش اللبناني منع الصدامات وحمى كل تظاهرة.
وتدعو هذه الأوساط إلى إبعاد الجيش والقوى الأمنية عن كل التحليلات السياسية وسط السيناريوات التي تطرح عن المرحلة المقبلة، وتؤكد أن هدف الجيش هو حماية البلد في هذه المرحلة العصيبة وعدم تدهور الأوضاع الأمنية، أما السياسة فهي عمل السياسيين ولا دخل لنا فيها، كما أن قائد الجيش لا دخل له بكل ما يتم تداوله من سيناريوات سياسية ورئاسية، بل إنه يطبّق ما يُمليه عليه ضميره وما تتطلّبه وظيفته العسكرية المقدّسة.
وفي حين يستنفر الجيش والقوى الأمنية في كل المناطق، لا تزال فكرة دعوة الإحتياط غير واردة حالياً لأن الأوضاع الأمنية لم تصل إلى مرحلة الخطورة القصوى، بل إن الوعي الشعبي يساعد الأجهزة على تجاوز المرحلة الحرجة التي يمر بها لبنان، وبالتالي فإن مشهد الأيام المقبلة لن يكون مختلفاً عن سابقاته إلا إذا أراد أحد تغييره ومحاولته الإنقضاض على الثورة مع أن الزخم الشعبي يؤكد أن هذه المحاولات لن يُكتب لها النجاح.