لن يكون انتصار الجيش اللبناني على «داعش» في جرود رأس بعلبك والقاع مجرّدَ حدثٍ عادي، بل سيدوَّن في سجلِّه واحداً من الإنجازات الخارقة. فالجيوشُ اﻹقليمية المدجَّجة بأسلحة أكثر تطوّراً تخوض حروبَ استنزاف مع «داعش» منذ سنوات، وما زالت أمامها تحدّياتٌ للقضاء على آخر معاقلها.
سيحطم الجيش مجموعةً من التحديات في معركة الجرود، وهي ذات طبيعة عسكرية ولوجستية من جهة، وذات طبيعة سياسية من جهة أخرى. وبالتأكيد، هناك تحدّي الطبيعة الغامضة للعدوّ الذي يقاتله الجيش، أي «داعش».
فهذا التنظيم، لم يحظَ منذ نشوئه بأيّ رعاية علنية من أيّ جهة، خلافاً لـ«جبهة النصرة» التي تبنّتها قوى إقليمية مختلفة في كثير من المراحل وتبرّعت بالاتصال بها والتوسط لديها. وأما «داعش» فبقي صعباً التوسّط معها.
والدليل اﻷبرز هو ما عاناه الجانب الرسمي اللبناني، اﻷمني والعسكري، في إحداث خرقٍ في جدار ملف العسكريين المخطوفين لدى «داعش»، فيما أُنجِز أكثر من اتفاق تبادل مع «النصرة».
لذلك، يبدو اليوم صعباً تجاوز «نصف المعركة» بالتفاوض مع «داعش» في جرود رأس بعلبك – القاع، فيما تمّ تجاوز «نصف المعركة» بالتفاوض مع «النصرة» في جرود عرسال، علماً أنّ الوسطاء اﻷمنيين اللبنانيين لا يوفّرون جهداً لتسجيل خرقٍ في الوساطة مع «داعش»، كما لم يوفّروها سابقاً مع «النصرة».
لطالما كانت القوى الراعية لـ«داعش» خلف الستارة تتبرّأ منها علناً. فما مِن وسيط إقليمي يتجرّأ على القول إنه يملك قناة اتصال مع تنظيم يرتكب أقبح الفظائع. وأيّ طرف إقليمي يجرؤ على قبول دور الوسيط لدى «داعش» سيكون مجبَراً على مواجهة السؤال اﻵتي: مِن أين لكَ أن تعرف قادة هذا التنظيم اﻹرهابي؟ ولماذا لم تزوّد القوى المقاتلة لـ«داعش» ما لديك من معلومات؟
إذاً، مع تعطّل الوساطات، يضع الجيش إصبعه على الزناد لمواجهة «داعش» في المعركة الحاسمة، فيما قلبُه على مخطوفيه التسعة لدى هذا التنظيم اﻹرهابي، الذين لم تنجح الوساطاتُ في استجلاء مصيرهم.
والكلام على محاولة جديدة تقوم بها الدولة اللبنانية، للبحث عن وسطاء جدد في الملف، تقود إلى نهاية مُرضيةٍ، كنهاية ملف المخطوفين لدى «النصرة»، ليست مضمونة إطلاقاً. فالجيش سيقاتل في جرود رأس بعلبك – القاع شبحاً إرهابياً لا يعرف أحدٌ لا رأسه ولا ذيله.
في الموازاة، هناك التحدّي العسكري. فإرهابيّو «داعش» يتغلغلون بمعدات وأسلحة متطوّرة في منطقة شديدة الوعورة، بل هي عبارة عن مجموعة تحصينات طبيعية يُجمِع الخبراء في الشؤون العسكرية على أنها تحتاج في شكل أساسي الى دور مباشر لسلاح الجوّ، ما يقلّص الجهود والخسائر التي يمكن أن تلحق نتيجة العملية البرّية.
ومعلوم أنّ الحرب اﻷساسية على «داعش» في سوريا والعراق تقوم على ركيزة سلاح الجوّ. وعندما يتقدّم الجيشان العراقي والسوري في مناطق «داعش»، تكون مئات الغارات الجوية قد سبقتهما وحطمت الهيكليات اﻷساسية لمواقع التنظيم ما يسهّل العمليات البرية. وتتضافر جهود سلاح الجوّ في الجيشين مع الضربات الجوية التي يسدّدها طيران التحالف الدولي، المزوَّد أرفع الدرجات التقنية وأكثرها حداثة.
فعلى المستوى البري، يسجَّل للجيش اللبناني أنه اﻷجدر بين جيوش المنطقة كافة، إذ يتمتع ضباطه وأفراده بكفاياتٍ شخصية وعلمية مشهودٍ لها، وقد تمّ إثباتُها في عدد من المحطات واﻻستحقاقات، على مدى السنوات اﻷخيرة. ومن النماذج ما حقّقه الجيش في نهر البارد وعبرا وعين الحلوة وعرسال وسواها.
لكنّ الجيش في حاجة ماسّة إلى دعمٍ جوي. فهو لا يملك سلاح طيران بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفي اﻷيام الأخيرة، عمد الجيش إلى تشغيل طائرات «سيسنا»، لكنّ خبراء العلوم العسكرية يدركون أنّ فاعليتها في معركة بهذا الحجم ليست كافية.
وخلال الزيارات المتلاحقة التي قام بها المسؤولون اللبنانيون لواشنطن، وفي اللقاءات العسكرية اﻷميركية – اللبنانية التي تجرى في لبنان، يطالب الجانب اللبناني بتطوير الدعم اﻷميركي والدولي للجيش بحيث يشمل سلاح الجوّ.
ولكن يبدو أنّ اﻻعتبارات اﻷميركية السابقة، التي لطالما حالت دون تحقيق هذا الهدف، ما زالت قائمة، علماً أنّ هناك حضوراً عسكرياً أميركياً داعماً للجيش في قاعدة رياق الجوية، حيث سُجِّل أخيراً هبوط طائرات مقاتلة أميركية.
لذلك، عندما يحتاج الجيش إلى دعمٍ جوي يسهِّل له انطلاق عمليته المنتظرة، هل سيتدخّل طيران التحالف الدولي لضرب مواقع «داعش»؟ وهل يقوم الطيران السوري بجزء من المهمة، بما يعنيه منها، من داخل اﻷراضي السورية؟
بالتأكيد، سيرفض الجيش اللبناني إقحام أيّ قوة خارجية في مسألة سيادية لبنانية. كما أنّ هناك توافقاً سياسياً داخلياً على مجموعة من الضوابط في العملية الجارية للقضاء على اﻹرهاب، سواءٌ من جهة عرسال أو من جهة رأس بعلبك- القاع. وأبرز عناصر التوافق عدم السماح بدور لقوى غير لبنانية في هذه المهمة. وأيّ تغيير في هذه المعادلة سيطرح إشكالات سياسية ووطنية ليس الوقت مناسباً لمواجهتها.
وبالتأكيد، سيقوم «حزب الله» بدور معيّن خلال العملية المنتظرة في رأس بعلبك، ولكن من مواقعه في الجانب السوري لا أكثر، حيث ينسّق عملياتُه دائماً مع الجيش السوري هناك.
لكنّ الإنجاز الوطني المطلوب سيحقّقه الجيش وحده دون سواه، وسيفكِّك اﻷلغام المزروعة أمامه. فهناك مسار وحيدٌ يقوده، وهو اﻹنتصار، بتغطية وطنية ودولية غير مسبوقة.
لكنّ التحدّي هو عدم اكتفاء الجميع بالدعم الشفهي أو «الروتيني» للجيش، بل منحه ما يحتاج إليه فعلاً من تجهيزات ومعدات تسهِّل عليه اﻻنتصار في أقصر وقت ممكن، وبأقل ما يمكن من تضحيات.