لا يحقّ لأي من السادة السياسيين أو المواقع الروحية المسيحية والإسلامية في لبنان استهجان ما ذهب إليه الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير. الخطاب يقع في السياق الطبيعي لما درج عليه الحزب منذ استلامه الملف اللبناني الأمني والسياسي بعد الإنسحاب القسري للجيش السوري، والذي كانت أولى تجليّاته إتفاق الإذعان في الدوحة. هاجس إنقلاب حزب الله على الطائف كان حاضراً في اللاوعي لدى السياسيين برمّتهم، سواء المتحالفين مع حزب الله أو المختلفين معه، ولكنّ العقل السياسي اللبناني الزبائني كان يتجاهل ذلك دائماً. عقدت الأحزاب والشخصيات السياسية الطامحة الصفقات السياسية مع الحزب، متجاهلة انغماسه في الإقليم ليس لقناعة بإيديولوجيته السياسية والمذهبية، بل رغبةً في استخدام سطوّته لتحسين موقعها في السلطة، وهذا ما ينطبق على التحالف الرباعي في العام 2005 وتفاهم مار مخايل 2006 وإتفاق ربط النزاع مع تيار المستقبل وصولاً الى التسوية الرئاسية التي كرّس حزب الله لنفسه حق الفيتو عليها.
خطاب حسن نصرالله بشقيّه الإقليمي والداخلي، وارتفاع حدّة المغامرة والتوتر في متنه حاكا الوضع الميداني في اليمن والإنهيارات الواضحة في صفوف حلفاء إيران. الهدف من الخطاب لم يكن طبعاً تذكير اللبنانيين بقوة الحزب بل توجيه رسالة الى خصوم إيران في الإقليم والعالم أنّ القبض على لبنان قد إستكمل شروطه الداخلية والإقليمية وأصبح لبنان جاهزاً للتموّضع على خط الصراع الإقليمي.
على المستوى الداخلي أعلن نصرالله سقوط كلّ الإلتزامات السابقة مع الحلفاء أو على الأقل تجميدها لصالح حماية إيران. فإصرار الأمين العام على توزير سنة 8 آذار لم يكن الهدف منه القول أنّ حزب الله أصبح حزباً عابراً للطوائف، بل سقوط رئاسة الحكومة وصلاحيات رئيسها نتيجة لمعادلة القوة المستجدّة. جاهر حزب الله برفضه محاولة رئيس الجمهورية الحؤول دون توزير سُنّة 8 آذار ورغبته بحماية موقع رئاسة الحكومة الذي طالما عمل لإضعافه واستيعابه، مستعيناً بحزب الله. لم يأبه حزب الله لهواجس حليفه رئيس الجمهورية بأنّ سقوط موقع رئاسة الحكومة في يدّ حزب الله يعني إنتفاء الحاجة لموقع قوي في رئاسة الجمهورية. أحلام الموارنة الجدد الكيانيّة بالعودة الى الجمهورية الأولى تهاوت أمام شراهة حليفهم الغارق في صراعات الإقليم والمكلّف بإدخال لبنان في منظومة القيادة والسيطرة الإيرانية على المنطقة. قذفت أدبيات الخطاب بالخصوصية المسيحية وبتفاهم مار مخايل وأنهت صلاحيته، ولم تنجح محاولة فريق رئيس الجمهورية التخفيف من وقع الخطاب وتهدئة المسيحيين الذين هالتهم المفردات المستخدمة. كما لم ينجح المسوّقون من هذا الفريق في وضع الخطاب في سياق الصراع السياسي الداخلي وقد دلّ على ذلك الذعر والإرتباك الواضح في اختيارهم المفردات.
على المستوى الإقليمي تنصّل حسن نصرالله من كلّ التعهدات السابقة، وكرّر مراراً التمسّك بمعادلة الشعب والجيش والمقاومة، والتمسّك بسلاح المقاومة وبصواريخها حتى لو«اضطررنا أن نبيع بيوتنا»، مما يعني أنّ الحزب أنجز قطع الجسور مع رؤية الجمهورية الثانية للصراع مع إسرائيل، وأنّ صلاحية القرار 1701 يمكن أن تُطرح على طاولة البحث إذا استلزمت المواجهة الإقليمية ذلك. محاكاة الأمين العام لإيران وسوريا كنموذجين للصمود في وجه العدو الإسرائيلي مقابلين للنموذج العربي الراغب بالسلام مع إسرائيل يعني التهديد بإعلان إلتحاق لبنان بالمحور السوري الإيراني.
هل لا زال لبنان يمثّل بالنسبة للغرب قيمة مضافة ينبغي الحفاظ عليها في الإقليم، وهل التهديد بتغيير وجه الجمهورية الثانية وتحويل لبنان من جمهورية برلمانية ديمقراطية الى «إتحاديّة مذاهب» سيغير في مسار الجنوح الأميركي لإعادة إيران الى داخل حدودها؟ وهل يمكن أن يعوّض القبض على لبنان خسائر إيران في اليمن وسوريا والعراق؟
على إيران أن تُقنع الولايات المتّحدة بجديّة تهديداتها قبل أن يقنعنا حزب الله بجدوى خطابه!!!!* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات