أحد الخبراء الدستوريين المشهود له بالعمق والدقة في الفهم، قال وفي معرض تعليقه على مؤتمر رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الدستور واضح لا يمكن على الإطلاق تأويله ولا تأوينه أي ربطه بزمن أو لحظة خاصّة. المواد فيه وجدت لتكون الوعاء الناظم لعلاقة المؤسسات ببعضها البعض. والمأساة التي عاشها ويعيشها اللبنانيون تتعنون بما أسماه الوزير السابق الدكتور ألبير منصور في عنوان كتاب له «الانقلاب على الطائف»، وقد استحال انقلابًا على الدستور بالواقعية السياسيّة التي فرضتها التسوية على لبنان منذ سنة 1989 وحتى لحظة انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة.
تابع هذا الخبير قائلاً: من قرأ المواد 31 و32 و33 و34 و35 من الدستور اللبنانيّ، انغمس بوضوح مضامينها المتسلسلة وصفائها المتجلّي، وهي واضحة بدور رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة بالدعوة لعقود استثنائيّة، وهذا واضح في المادة 33 من الدستور، والمادة 31 واضحة من حيث تحديد انعقاد المجلس حيث جاء فيها: «كل اجتماع بعقده المجلس في غير المواعيد القانونيّة يعد حكماً باطلاً»، بهذا المعنى النصّ غير خاضع لأيّ تأويل لغويّ أو فقهيّ. ومن هنا فإنّ دعوة رئيس المجلس إلى جلسة عامة في الخامس من حزيران وخارج دورته العادية يعد باطلاً حكمًا كما جاء في نصّ المادة 31 من الدستور والمادة 32 واضحة من حيث الدورات الطبيعيّة في حين أنّ المادة 33 اعتبرت بأن الدعوة إلى عقود استثنائيّة تعود إلى رئيس الجمهوريّة بالتوافق مع رئيس الحكومة وقد جاء النصّ حرفيّاً على النحو التالي: «إنّ افتتاح العقود العاديّة واختتامها يجريان حكماً في المواعيد المبينة في المادة الثانية والثلاثين. ولرئيس الجمهوريّة بالاتفاق مع رئيس الحكومة أن يدعو مجلس النواب إلى عقود استثنائية بمرسوم يحدّد افتتاحها واختتامها وبرنامجها، وعلى رئيس الجمهوريّة دعوة المجلس إلى عقود استثنائيّة إذا طلبت ذلك الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس»، بهذا المعنى وبحسب رؤية الخبير إنّ النصوص بجوهرها لا تحتمل أن يذهب بها نحو ما هو أبعد، ورئيس الجمهوريّة بحسب المادة 49 من الدستور رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، وبالتالي، فإنّ «استباحة» المادة 33 من الدستور بإمكانها أن تتحوّل إلى استباحة للمادة 49 وما تعنيه تلك العبارة الواردة فيها أي «رئيس الدولة ووحدة الوطن»، كما يسوغ وبرأيي هذا الخبير عطف المادة 32 من الدستور على المادة 59 منه وتحميل عبارة «تأجيل» لغويّاً وفقهيّاً معنى آخر مختلفًا عنها وكأن عطف المادة 32على المادة 59 منطلق يسوّغ للمجلس النيابي الدعوة إلى عقد استثنائيّ، فيحمل التسويغ حينئذ مشروع إبطال المحتوى القائم في المادة 33 كمحاولة لاستباحة دور رئيس الجمهورية في الدعوة إلى عقود استثنائيّة.
وهنا يبدي الخبير بأنّ استعمال رئيس الجمهوريّة حقّه ليس ديناً بل هو حقّ فقط بلا دين أو قيد، استناداً إلى المواد الدستوريّة المشار إليها، والتي تبين متى يدعو المجلس إلى دورات طبيعيّة ومتى يدعو رئيس الجمهوريّة إلى دورات استثنائية خارج تاريخ الدورات الطبيعيّة.
لرئيس مجلس النواب سابقاً السيد حسين الحسيني، موقف مؤيّد لتلك القراءة، ففي حديث له قال: «ليس لرئيس المجلس النيابيّ أي حقّ في دعوة مجلس النواب إلى جلسة خارج العقدين الواضحين في الدستور من دون فتح دورة استثنائيّة، وعلى هذا فإنّ الداعي إلى الدورة الاستثنائيّة وبحسب الدستور هو رئيس الجمهوريّة، من هنا فإن الدعوة خارج هذا السياق تعتبر مخالفة دستوريّة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهي باطلة بحسب منطوق المادة 31 من الدستور».
موقف الرئيس الحسيني التماس للحقيقة الدستورية التي ظهرت في حديث الخبير الدستوريّ. والحقيقة الدستوريّة بطبيعتها غير منفصلة عن طبيعة النقاش السياسيّ حول قانون للانتخابات النيابيّة. أحد المصادر السياسيّة اعتبرت بأن رئيس المجلس النيابيّ نبيه برّي الذي حاول تفسير القواعد الدستوريّة، كان عليه أن يتذكّر بأنّه حين كان المجلس في دورته العادية لم يدع إلى جلسة عامة لمناقشة قانون للانتخابات ويعود ذلك إلى هاجس تملّكه من قدرة الكتل المسيحيّة مع حزب الله على إقرار «مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ» أو مشروع النسبية مع خمس عشرة دائرة في الجلسة العامة، وهو العارف بأن هذا المشروع عيناً أو أيّ مشروع آخر ميثاقيّ، يجسّد بالشكل والمضمون المادتين 24 و95 من الدستور وفيهما تركيز في المناصفة الفعليّة وفي النسبيّة، ففي المادة 24 يتم توزيع المقاعد النيابيّة بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبيّاً بين طوائف كلّ من الفئتين ونسبيّاً بين المناطق، وبالتالي فإنّ عدم إقرار قانون يجسّد الميثاقيّ يجوّف العهد بالمعنى السياسيّ وبالمعنى الدستوريّ، يبطل مفاعيل المادّة 33، ويجوّف المادة 49 ويفرغ المادة 59 من المضمون المترابط حول صفة رئيس الجمهورية ودوره ورمزيته. وقد استعمل رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون حقّه في المادة 59، وقد تمّت الملاحظة بأنّه لم يستعمل أي رئيس للجمهورية هذا الحقّ المنصوص في تلك المادة منذ الاستقلال إلى الآن. وحده عون من استعمله وجاء في موقعه السليم.
أوساط سياسيّة واكبت هذا النقاش بعمقه وتفاصيله، لفتت النظر وبحسب معلومات واردة بأنّ الأطراف السياسيّة على رغم من هذا الخلاف المتسربل بالقراءات الدستوريّة إلاّ أنها متفقة على ضرورة الوصول إلى قانون للانتخابات قبل الأعياد المقبلة. لا يستطيع لبنان وفي محطة التغييرات الكبرى والتبدّلات الجذريّة في الجيو-استراتيجيا بجيو-سياسيات جديدة، ان يتحمّل لمرحلة طويلة أيّ فراغ دستوريّ أو تمديد أو قانون يبطل الحالة الميثاقية التي يحتاجها لبنان كوعاء جامع للأطراف والأطياف والطوائف. وتشير تلك الأوساط بانّ الجميع سيعودون إلى الرؤية الجامعة بين رئيس الجمهوريّة العماد عون وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وهي مكنونة في قبولهما لمشروع النسبية والخمس عشرة دائرة. وكملاحظة أبدت الأوساط بان الرئيس والسيد هما اول من تكلما على هذا المشروع بتأييد وذكرت بما قاله السيد حول إمكانية تعديله بحال وجدت الأطراف حاجة للتشذيب أو التعديل ضمن مسودة تقدّم للنقاش.
جوهر المسالة أن هذا المشروع بدأ يلقى قبولاً من جديد وقد طغى على بقية المشاريع الأخرى. ففي البقاع الشماليّ وقبل اجتماع تكتّل التغيير والإصلاح أعلن الوزير جبران باسيل قبوله بالمشروع، وأردف قائلاً بأنّ معظم المشاريع التي طرحها التيار والتكتّل مبنيّة على النسبيّة. الرئيس نبيه برّي سلّم بدوره بالمشروع عينه مع انتظاره أجوبة محددة من التيار الوطنيّ الحرّ وتكتّل التغيير والإصلاح.
تلك الأوساط توقفت في محطة القبول عند الشروط والشروط المضادة فرأت فيها رفعًا لسقوف التفاوض وصولاً إلى النهاية بتجليات الحلّ فيها. وفي هذه المساحة توقفت الأوساط عند تبديل المواقع النيابيّة، لتقرأ بأنّ رفضها محاولة أخيرة لإضعاف العدد المسيحيّ المنشود، ورأت بأنّه حتى لو تمّ رفض التبديل فإن الضرر طفيف ومحدود علماً بأنّه مثلب لا يخدم صاحبه.
في النهاية جبران باسيل في نقاشه الأخير لا سيما في حديثه بعد اجتماع التكتّل أعاد الاعتبار إلى الدستور اللبنانيّ واتفاق الطائف القائل بضرورة تخفيض عدد النواب إلى 108 نواب. وهو يميّز بين حالة الوصاية التي أدت إلى تكريس الانقلاب على الطائف بطائف مقنّع، ومرحلة العهد الجديد ضمن مشيئة إحياء الدستور وتجسيده ومكافحة الفساد.
الشرط الأساسيّ لكلّ ذلك إقرار قانون للانتخابات يجسّد المادتين 24 و95 من الدستور أي المناصفة والنسبية بين الطوائف، ومتى تمّ الإقرار سطع العهد في مشروعه الدستوريّ والقانوني والشرعيّ والوطنيّ وأول بند فيه مكافحة الفساد واستعادة الدولة لسلطتها على الأراضي اللبنانية كافّة.