Site icon IMLebanon

إغتيال أستاذ التاريخ والجغرافيا… قصة رمانة أم قلوب مليانة؟

 

إذا كان الرسم الكاريكاتوري مسيئاً أحياناً فإن القتل جريمة دائماً، وإذا كان من أساء يستحق عقوبة فإن القاتل يستحق حتماً القتل… وهنا، لا بُدّ من سؤال: هل ما حدث في فرنسا مع أستاذ التاريخ والجغرافيا صامويل باتي، الذي عرض رسوماً مسيئة للنبي محمد أمام تلاميذه، سيعود وينتهي في فرنسا أم “سيفقع” في لبنان وفي دول هشّة مثل لبنان؟ وهل ما حدث يندرج في خانة حرية التعبير أم صفة الوقاحة؟ وماذا عن سقوف حريّة التعبير في قواميس من أمسكوا الريشة ورسموا ما تعجز عنه آلاف الكلمات؟

 

أخطأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين قال إن “صامويل باتي” قُتل “لأن الإسلاميين يريدون الإستحواذ على مستقبلنا”، وكان أحرى به أن يقول قُتل الأستاذ لأن بعض المتطرفين الإسلاميين “يريدون الاستحواذ على مستقبلنا” أو القول، بلا لف ودوران: رجب طيب أردوغان يريد الإستحواذ على مستقبلنا ومستقبل المسلمين معاً. شقلبة بسيطة في الجملة كانت أتت حتماً لمصلحة بلاده. في كل حال، هو عاد وزاد: “لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية”. فهل أراد أن يتحدى أم عبّر بالفعل عن طبيعة الحريات في فرنسا؟

 

ليست المرة الأولى ولن تكون طبعاً الأخيرة التي ينتفض فيها ناس على ناس بسبب “شرقطة” تسبب بها رسم كاريكاتوري مسيء الى دين وطائفة وجماعة، ولكن، هل تشبه هذه المرة المرات السابقة؟ القاتل هو شاب مسلم شيشاني، في عمر الثامنة عشرة، فصل ذبحاً رأس ضحيته عن كتفيه كردّ فعل على حصة في التاريخ والجغرافيا، استخدم فيه الأستاذ القتيل رسوماً كاريكاتورية يعتبرها مسيئة. وها هو العالم العربي والإسلامي، في أجزاء منه، يثور من أجل مقاطعة البضائع الفرنسية. وها هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي استولى قبل أشهر على آيا صوفيا يُشكك في صحة الرئيس ماكرون العقلية… وماذا بعد؟

 

فلنذهب الى طرابلس الفيحاء، الى عاصمة الشمال اللبناني التي يحلو للبعض تسميتها “قلعة المسلمين”، في حين سماها آخرون عروس الثورة اللبنانية، لاستكشاف كيفية تلقفها ما اعتبر اعتداء على الرسول؟

 

تغيّرت طرابلس كثيراً في عام، بعدما ظنّت أنها في اتجاه التغيير السوي، فتعززت في مدينة الفيحاء نوستالجيا الحنين الى دولة، لا الخنوع لإرضاء رغبات من يريدون إحداث الفوضى عبر بوابتها. وها هي تنتظر الآن ما تُخبئه لها الأيام المقبلة. وفي الإنتظار لاقت الصدى الآتي من فرنسا ببعض التحركات لكن بكثير من التنبه كي لا يدفعوها هذه المرة أيضاً دفعاً نحو مواقف لا تريدها. الشيخ نبيل رحيم، المنتمي الى هيئة العلماء المسلمين، رأى في ما حدث إساءة للإسلام والنبي محمد ولا يدخل أبداً ضمن حرية التعبير، “فثمة أمور مقدسة ممنوع التطاول عليها أو الإساءة فيها”. لكن، هل ستثور طرابلس أم انتهت الأمور عند حدود بعض بيانات الإستنكار؟ يجيب: “نحن مع إحداث ضغط على الدولة الفرنسية لكن من خلال مسيرات سلمية ومقاطعة أي بضاعة فرنسية ومحاربة الإقتصاد الفرنسي”. تبدو لهجة الشيخ رحيم هادئة فهو واثق بأن الأمور، أي أمور، لا تُحل إلا سلمياً.

هل تنتهي الأزمة على خير؟

 

ما رأي حزب التحرير؟ يجيب المسؤول الإعلامي في الحزب محمد ابراهيم: “نفذت طرابلس سلسلة تحركات عفوية في الميناء وأبو سمرا وساحة النور والبداوي، وتفكر المدينة، عبر جماعات إسلامية فيها، بالقيام بحراك مركزي في قلب بيروت في الايام القليلة المقبلة. نحن ننسق حالياً مع المناطق الأخرى في هذا الشأن”. يضيف: “نحن، كمسلمين، نُشكك بالرواية الفرنسية، فكيف لشاب صغير أن يذبح رجلاً يضاهيه حجماً وطولاً وقوة؟ وكيف؟ وكيف…؟ تكثر أسئلة ابراهيم ليخلص الى القول: “بأن وراء ما حدث رسالة أبعد من صامويل باتي، فالرئيس الفرنسي هاجم الإسلام لإثارة الأحقاد وإلهاء الناس عن السياسة والإقتصاد. هو تعلّم سياسة الإلهاء من اللبنانيين. وها هو الإعلام الفرنسي يهاجم الإسلام السياسي بينما لا يتطرق الى الإعتداء على محجبات. هناك ثمانية ملايين مسلم فرنسي لا يراعيهم و…” طالما الأمر كذلك فلماذا يقف الناس، مسلمين وغير مسلمين، صفوفاً لطلب الهجرة الى فرنسا؟ يجيب: “لو كان للمسلمين دولة تحكم بالإسلام لتغيّر الموضوع. أردوغان تصرف أفضل من سواه لكن كان عليه أن يطرد السفير الفرنسي. فالدول لا يمكنها أن تقول لناسها قاطعوا جبنة “بيكون” لكنها تستطيع أن تطرد سفراءها”.

 

إذا كانت هذه هي الحال في طرابلس، من خلال بعض الجماعات الإسلامية فيها، فماذا عن رسامي الكاريكاتور؟ كيف يقرأون ما يحدث تباعاً بحجة رسم كاريكاتوري مسيء؟

 

 

رسام الكاريكاتور أنطوان غانم يراقب ما يحدث اليوم، جراء عرض أستاذ تاريخ وجغرافيا لرسوم كاريكاتورية، ويقول “الأستاذ “المعتر” ليس ناشراً ولا رساماً بل مجرد عارض لرسوم في حصة تدريسية، ويمكن لأيّ كان الإطلاع عليها في مكان ما، وبالتالي ما حصل يتعدى حدود الكاريكاتور الى وجود رسالة إرهابية استخدمت الكاريكاتور كذريعة لإيصالها. والكاريكاتور كما تعلمون أرض خصبة لبعث الرسائل. هل ما يحصل وما سبق وحصل يجعل رسام الكاريكاتور يخاف ويعدّ الى أكثر من عشرة قبل النشر؟ يجيب: “الكاريكاتور اليومي خطير لأن لا وقت لدينا لنُفكّر فيه مرتين، بمعنى أن أفكر برسم الفكرة أو استبعادها أو “تطريتها”، في حين أن الرسم الكاريكاتوري الأسبوعي يتمكن من “ركلجة” الرسم أكثر. في كل حال، حين نُسقط على أنفسنا خطوطاً مسبقة نحدّ تلقائياً من حرية التعبير وتموت الأفكار القوية”.

 

حرية التعبير مقدسة، وما نراه نحن، في الشرق، يتجاوز الخطوط الحمر، يرونه هناك في الغرب عادياً. أنطوان غانم رسم مراراً وتكراراً ما أثار الرأي العام، وآخرها الكوفية الفلسطينية التي شبهها بوباء كورونا، ويقول: “أعتذر عن رسم قمت به إذا كان الموضوع خاطئاً لكن إذا كان “لسان حال” الناس فلا أندم ولا أعتذر”. يضيف: “تضاءل كثيراً عدد رسامي الكاريكاتور اليوميين في لبنان وهذا دليل الى انخفاض منسوب حرية التعبير بالمطلق”. ويستطرد: “هناك تهديدات دائمة نتلقاها ما جعل هذه المهنة تحتاج الى صبر طويل ورقابة دقيقة”. ولماذا لا نرى رسامات كاريكاتور نساء في يومياتنا؟ يجيب: “مهنة الرسم الكاريكاتوري خشنة والمرأة، بطبيعتها، لا تحب التشويه بل هي في بحث دؤوب عن الجمال”. يرى غانم “أن ثمة فارقاً كبيراً بين الرسم الكاريكاتوري والإهانة. وهناك رسومات فيها كثير من قلة الأخلاق. لذا يفترض التمييز بين من يرسمون لمجرد الإساءة وبين رسامي الكاريكاتور الحقيقيين. في كل حال، اقول لكل من يتابعون: فتشوا عن الرسالة من وراء ما يحصل والتي تبدأ من آيا صوفيا مروراً بترامب وتدخل في روسيا المسيحية وصولاً الى التمدد الإسلامي في أوروبا والصراع على النفط. الرسائل كثيرة بذريعة كاريكاتورية”.

 

بيار صادق الذي أبى أن “يفلت” ريشته وهو حيّ واجه هو أيضاً “كاريكاتورياً” ما يحوط بهذا العالم المثقل بالتحديات. وتقول رئيسة مؤسسة بيار صادق ابنته غادة صادق أبيلا: “بيار من رواد حرية التعبير في المنطقة وهو تعرّض في مهنته، طوال 53 عاماً، للإختطاف والتهديد بالقتل والمحكمة العسكرية وهو كان يردد دائماً ما يواجهه يومياً: نحن في بلد طائفي وانتماء الشعب لطائفته وحزبه… كان لدى بيار خطوط حمر شخصية تقضي بألا يتعرض الى المقامات الدينية. كان يرسمها ولكن بلا تجريح. وكان يردد دائماً: إن أي كاريكاتور يُحرج أو يهين ستكون ارتداداته سلبية وبلا طعمة. وتستطرد غادة بالقول “في العام 2012، قبل عام واحد من وفاته، أنجز رسماً وضمنه ما معناه “رزق الله على نصرالله” (قبل أن يتعاطى السياسة) فأتاه 612 تهديداً”.

 

الرسوم في الخارج من “الزنار وبالنازل”. هي هكذا هناك. وأوروبا تصرّ على حرية التعبير. تقول رئيسة مؤسسة بيار صادق هذا وتتابع: “بيار كان ضدّ الإهانة في المطلق وكان يثق بأن “ما حدا بيستاهل يموت لأنو عمل كاريكاتور”. حين خطفوه أول الحرب اللبنانية هرب وبعد ثلاثة أيام خطفوا ميشال أبو جودة. وكلنا نعلم ماذا فعلوا بسليم اللوزي. نحن نواجه القمع لكن في شكل مبطن. إنهم يقتلون من يتجرأ على التعبير ولا يظهر القاتل، أما في الخارج فيقبضون على القاتل. في كل حال، بيار صادق رسم نفسه سابقاً، في العام 1964، وراء القضبان وهناك من يحقق معه. هو اختصر رسم الطريق منذ البدايات. وهو كان يرفض المساس بحرف واحد في رسوماته وإذا كان لا بُدّ فلتحذف كلها”.

 

ننتقل من فرنسا الى طرابلس الى قصص الرسامين الكاريكاتوريين ويظلّ السؤال يُطرح بالبند العريض: هل يحق لأحد أن يسيء الى آخر بحجة حرية التعبير؟ وكيف إذا كان الآخر رسولاً؟ الرسام السوري علي فرزات علّق: “الرسامون رسموا النبي في شكل مرعب، بحسب الإنطباع الذي كونوه عنه من خلال الدواعش والقاعدة. وبالتالي، مشكلة المسلمين تكمن في عدم وجود لوبي إسلامي حقيقي ينورهم وينوّر الغرب حول حقيقة الإسلام”. الثابت وجود “رسائل” وراء كل حدث، والكاريكاتور كما قيل أرض خصبة لبعث هذه الرسائل. أتذكرون ما حصل عام 2013؟ يومها صدر رسمان مسيئان في أقل من شهر في لبنان، واحد صدر في صحيفة الوطن السعودية بريشة الأردني جهاد عورتاني يسيء الى البطريرك الكاردينال بشارة الراعي، وثان تدلى من جسر جل الديب فيه إساءة الى الملك السعودي. حصل ذلك في لحظة زمنية معينة لكن، لم ينجح يومها من حاولوا إثارة فتنة بين المملكة والمسيحيين ورشق الحجارة في كل الإتجاهات.

 

اليوم، قصة من نوع آخر. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو المقصود قبل صامويل باتي. فالحادثة تمّت في لحظة زمنية معينة، يتحرك فيها الرئيس الفرنسي في اتجاه الشرق. والرد الأشرس جاء من تركيا رجب طيب أردوغان، ذات الأحلام التوسعية في هذا الشرق. في كل حال، من يتابع مقطعاً من فيلم تركي طويل وزّع عبر “السوشيل ميديا” عن السلطان عبد الحميد الثاني وهو يرد على الفرنسيين الذين قيل له انهم ينوون إنجاز مسرحية عن الرسول، يدرك “الزهو بالنفس” الذي يمارس من قبل الأتراك بدفع من أردوغان الآن. نرى في المقطع عبد الحميد الثاني يقول للسفير الفرنسي: “أنا سلطان البلقان والعراق وسوريا وجبل لبنان والحجاز والقوقاز والأناضول. أنا خليفة الإسلام عبد الحميد خان سأهدم الدنيا فوق رؤوسكم”. رجب طيب أردوغان يتدرب هو أيضاً على هذه الجملة مع فارق أنه لم يجرؤ على طرد السفير الفرنسي من بلاده.