Site icon IMLebanon

إغتيال رفيق الحريري كان نتيجة المواجهة وليس سبباً

 

«لا تنتقد خجلي الشديد فإنني بسيطة جداً.. وأنت خبيرُ خذني بكل بساطتي.. وطفولتي أنا لم أزل أحبو.. وأنت كبيرُ من أين تأتي بالفصاحة كلها وأنا يتوه على فمي التعبيرُ أنا في الهوى لا حول لي أو قوة إن المحب بطبعه مكسورُ يا واضع التاريخ تحت سريره يا أيها المُتشاوف.. المغرورُ يا هادئ الأعصاب إنك ثابت وأنا على ذاتي أدور.. أدورُ فرق كبير بيننا يا سيّدي فأنا محافظة وأنت جسورُ وأنا مقيدة وأنت تطيرُ.. وأنا محجبة وأنت بصير.. فرق كبير بيننا.. يا سيدي فأنا الحضارةُ.. والطُّغاة ذكورُ» سعاد الصباح

بليغة تلك القصيدة القصيرة التي قيل فيها الكثير من الأقاويل بعد أن نظمتها سعاد الصباح، لكنها بوضوح تشرح الفرق بين أمرين يشبهان بعض الشيء ما هو آتٍ في المقالة. لكنني معجب بشكل استثنائي بالكلمات وبذاك الإحساس الاستثنائي الذي طبع الأغنية عندما سمعتها لأول مرة بصوت نجاة الصغيرة. فلمن يريد فهي متوفرة على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

أما بعد، لم يغفر مشروع ولاية الفقيه لرفيق الحريري جريمة اتفاق الطائف التي أنهت، ولو مؤقتاً، حربنا الطويلة المجنونة المازوشية المغرقة حتى الجنون في تعذيب الذات. فعشية اتفاق الطائف خرج قائد مشروع الولي الفقيه المحلي، ليرفض الاتفاق لأنه «مؤامرة إسرائيلية تريد استمرار سيطرة المارونية السياسية على لبنان»، في حين أن الرافض الآخر يومها، ولسبب عكسي، كان ميشال عون، بحجة أن الاتفاق «يسرق صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني»، ولكن أهم سبب رفض الأخير هو لأنه لم يصل به الاتفاق لسدة الرئاسة. بالنهاية، فحتى أشد الأعداء عداوة، قد تتقاطع خياراتهم على شيء مشترك، حتى وإن كان لأسباب متناقضة. من هنا لا يجب أن نستغرب اتفاق كنيسة مار مخايل الذي جمع النقيضين النظريين، فلكل من الطرفين وطره الذي سعى لنيله، حتى ولو على ثمن دمار كل شيء.

 

لكن ذلك كله ليس بيت القصيد، فحزب الولي الفقيه كان يراهن على أن استمرار الفوضى والموت والدمار في لبنان أولا، وعلى ثباته الإيماني العقائدي على التنظيم والصبر في الشدائد ثانياً، لكونهما سيفتحان الباب له واسعاً أمام تمديد سلطة الولي على أوسع مساحة من الأرض. ولمن لا يعرف، فإن منظّري هذه العقيدة يعتبرون أن دور الولي الفقيه، كوكيل للمهدي المنتظر، هو تعميم سلطته التي تمثل العدل الإلهي المطلق، وذلك لتشجيع العودة المنتظرة من الغيبة الكبرى… من هنا، فإن وقف الحرب بالنسبة للحزب كان مؤامرة خبيثة لإعاقة مساره لتثبيت السلطة فوق أطلال الحجر وأجساد البشر. فلا إمكانية لمشروع كارثي أسطوري أن يزرع بذوره إلا فوق أرض محروقة خالية من الأمل في النفوس ومن النور في العقول التي تبحث عن الحلول من خلال السؤال عن الحقيقة.

 

لذلك، فقد وضع حزب الولي الفقيه رفيق الحريري منذ البداية موضع العدو اللدود لمشروعه. يقيني هو أن المشروع المضاد الذي كان واجهته الحريري، والذي صادف انطلاقه سنة 1979 مع حلول كارثة الثورة الخمينية على إيران وعلى المنطقة جمعاء، وُضع تحت مجهر «حزب الله» منذ بدايات النشاط غير العلني للحزب بعد الاجتياح الإسرائيلي. يومها بدأ رفيق الحريري بالعمل على سحب الركام، في ورشة لإعادة بعض معالم المدن والمدنية إلى لبنان، في حين أنّ حرب 1982 هي التي صنعت فرصة إنشاء حزب ولاية الفقيه على حساب الفراغ الذي خلّفته منظمة التحرير الفلسطينية، وهزيمة القوات السورية في لبنان، والاستسلام العربي للأمر الواقع. المواجهة كانت منطقية منذ البداية بين مشروعين، وربما يمكن وصفهما بالمغامرتين الخطرتين. الأولى تستند إلى مضاعفة الشدائد والفوضى للإيحاء بأن الأمل متاح فقط من خلال الخضوع لهيمنة الأساطير العقائدية التي تسعى للمواجهة الدموية بين الخير والشر في معركة تنتهي بنهاية الأزمنة. أما الثانية، فتستند إلى بناء فسحات للأمل، وبأن الأمن والأمان متاحان من خلال العلم وبناء الأصرح وتوسيع إمكانية الرزق، فنهاية الأزمنة ليست بيد البشر، إلا إن سعوا لها من خلال التدمير الذاتي. الإشكال يقع عندما ندرك أن المشروع الأول يحتاج إلى أعداء ليستمر في تماسكه، وبالتالي تسويغ الموت والتضحية المستمرة بالذات وبالآخر، أما الثاني فهو يحتاج إلى مراكمة الصداقات، وإن لم يكن ممكناً تحويل الجميع إلى أصدقاء، فلا مانع من اختراع تسويات، أو حتى الاستناد إلى هدنة تربط النزاع. أمل المشروع الذي كان رفيق الحريري واجهته يستند إلى أن استطالة مدة الهدنة والتسويات، قد يفسح المجال للبناء المدني والإنساني وتوسيع الأرزاق، فتضيق مساحات عمل المشروع الآخر، المستند إلى ضيق الحال والفقر وتضاؤل الأمل وندرة الفرص.

 

اتفاق الطائف والهدنة التي أتاحها، ومن ثم فرصة السلام العابرة في مؤتمر مدريد، خاض خلالها رفيق الحريري مغامرة البناء الخطرة، بشجونها وشؤونها، وكل ما اعتراها من شوائب وضعت صاحبها في دائرة الاتهام والشك، وما زال ذاك المشروع حتى اليوم كبش محرقة للفشل العظيم والانهزام أمام المغامرة الأخرى المسلحة بكافة صنوف الدعاية الكاذبة والقتل والتفجير والحروب والمؤامرات والترويع.

 

اليوم تأتي الذكرى الـ17 لاغتيال رفيق الحريري، ولا أقصد اليوم بهذا الكلام تحويل الذكرى إلى محطة متكررة حتى الملل للندب ونكء الجراح والخطابات الفارغة، ولا لإثارة العصبيات المذهبية، ولا لحَرف الأنظار عن واقع المصيبة الكأداء التي نعيش فيها. لكنني لا أريد أيضا حصر الأمور فقط بقضية اغتيال رفيق الحريري، وكأنها هي ما صَعّد الخلاف مع «حزب الله» في لبنان. الهدف من الذكرى هو التأكيد على أن اغتيال رفيق الحريري، كما اغتيال أعضاء لائحة الشرف الإنسانية، وآخرهم لقمان سليم، كما حرب تموز وغزوة بيروت والحرب في سوريا واليمن والعراق، كما داعش والتطرف من كل أشكاله، كلها تأتي في سياق المواجهة المستمرة بين مشروع ينمو كالطحالب على اليأس والجثث والدمار، وآخر يزهر على الأمل والبناء وحب الحياة. فالمواجهة لم تبدأ مع رفيق الحريري، بل كان هو أحد أبطالها وضحاياها، ولم تنته مع اغتيال لقمان سليم، او اغتيال شعب سوريا، بل هي مستمرة بين أسطورة قاتمة موحشة تمجّد الموت، وأخرى زاهية تعشق الحياة وتعتبرها نعمة لا يحق لأحد أن يهدرها. رفيق الحريري كان نواة الجبهة الوطنية لمواجهة الاحتلال الإيراني.