في 24 نيسان 1980 هبطت طائرات عسكرية أميركية في صحراء طبس في إيران في مهمة لتحرير رهائن السفارة الأميركية في طهران الذين تم احتجازهم منذ 4 تشرين الثاني 1979. ولكن العملية فشلت بعد اصطدام بين طوافة عسكرية وطائرة نقل وسقوط ثمانية قتلى من القوة المنفذة، الأمر الذي أدى إلى إلغاء العملية. منذ ذلك التاريخ دخلت واشنطن في عقدة عملية “مخلب النسر” الفاشلة فهل كانت عملية اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني بمثابة التحرر من هذه العقدة؟
في 16 كانون الثاني 1979 غادر شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى الولايات المتحدة الأميركية للعلاج قبل ان يعود ليستقر في مصر متمتعا بحماية الرئيس محمد أنور السادات. في أول شباط هبطت في مطار طهران طائرة آتية من فرنسا وعلى متنها رجل الدين الشيعي الأبرز الإمام آية الله الخميني ليبدأ منذ ذلك التاريخ تاريخ جديد في إيران والشرق الأوسط ومن العلاقات المتفجرة بين واشنطن وطهران. منذ ذلك التاريخ انتهى الزمن الذي كان بإمكان واشنطن أن تقوم فيه بعملية انقلاب داخل طهران، كما حصل في 19 آب 1953، لعزل رئيس الوزراء محمد مصدق الذي استلم السلطة بانقلاب والتمهيد لعودة الشاه من إيطاليا على متن طائرة حطت به أيضا في مطار طهران. تلك الخطة سميت خطة “أجاكس” وكانت معقدة أكثر من خطة “مخلب النسر” ولكنها نجحت في تحقيق أهدافها وسمح بها الرئيس تيودور روزفلت ووزير خارجيته جون فوستر دالاس وتم التنسيق فيها مع المخابرات البريطانية وقد كانت بيروت مسرحا للقاءات مسؤولي مخابرات البلدين الذين وضعوا اللمسات الأخيرة للتنفيذ.
بين ريغان والخميني
تلك النكسة الأميركية في صحراء طبس زادت الحذر الأميركي في اعتماد سياسة العمليات العسكرية المباشرة خصوصا أن واشنطن كانت لا تزال أسيرة عقدة حرب فييتنام التي لم يكن قد مضى أكثر من خمسة أعوام على الخروج من وحولها. ولكن ما تم اعتباره هزيمة لأميركا “الشيطان الأكبر” لم يكن إلا مرحلة عابرة وبالتالي لم يكن انتصارا للجمهورية الإسلامية الناشئة في ظل قيادة الخميني. في نهاية العام 1980 كانت أميركا تنتخب رونالد ريغان رئيساً لها وتعاقب الرئيس جيمي كارتر الذي حاول أن ينقذ الرهائن وفشل. وفي 20 كانون الثاني 1981، بعد يوم واحد على دخول ريغان البيت الأبيض كانت إيران تطلق سراح الرهائن الأميركيين الـ 52 بعد 444 يوما من الإحتجاز. والرقم 52 هو الذي حدده الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب في تهديده بالرد على إيران في حال ردت على اغتيال قاسم سليماني.
ربما لم تدرك الثورة الإسلامية في بداية عهدها أنها أسهمت في وصول الرئيس الأميركي القوي رونالد ريغان إلى الحكم وهو الذي اعتبر أنه انتصار لليمين الأميركي المتدين، وقد اعتبر مراقبون أن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هو امتداد للروحية والخلفيات التي أوصلت ريغان. صحيح أن واشنطن على عهد كارتر لم تمنع سقوط الشاه وقيام نظام الحكم الإسلامي في طهران وأنها فشلت في عملية “مخلب النسر” ولكن ريغان بعد سبعة أعوام كان يحتفل بسقوط الإتحاد السوفياتي وتحول بلاده إلى القوة الوحيدة في العالم التي على رغم ذلك لم تدخل في مواجهة مباشرة مع إيران لإعادة الإعتبار وكأنه لم يكن من أهدافها إسقاط الثورة الإسلامية وتركها لتلعب أدوارا كبيرة في الصراعات الكثيرة في منطقة الشرق الأوسط والتي كان لبنان إحدى ساحات المواجهة فيها.
لا هدنة ولا حرب شاملة
لم يقفل إطلاق سراح رهائن السفارة أبواب الحرب بين واشنطن وطهران. لم تكن هناك هدنة ولكن لم تحصل حرب شاملة. ومن سخريات القدر أن يشهد لبنان فصولا دموية من تلك الحرب. من تلك الفصول ثمة صورة معبرة انتشرت مؤخرا تجمع بين ثلاثة أشخاص اشتركوا في صناعة أحداث تلك المرحلة وهم اللواء قاسم سليماني والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله والقائد العسكري في الحزب عماد مغنية وقد نشر سليماني تلك الصورة على خلفية قراءة خرائط العمليات العسكرية خلال حرب تموز 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل بعدما قدم متأخراً 13 عاماً رواية دوره في تلك الحرب. من بين الثلاثة لا يزال نصرالله لاعباً رئيسياً على مسرح الأحداث بعد اغتيال مغنية في دمشق في 12 شباط 2008 وسليماني في بغداد ليل الخميس – الجمعة 3 كانون الثاني الحالي. وقد هدد بعد الإغتيال بالرد على الإعتداء الأميركي وببدء الحرب لطرد الجيوش الأميركية من كل المنطقة. ولكن ليست هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها مثل هذه الحرب وتحت هذا العنوان.
تفجيرات متنقلة
عندما نزلت قوات المارينز في مرفأ بيروت بعد الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982 بدأت بوادر تلك الحرب. منذ الإنزال الأول في العام 1958 كان هذا الحدث تحولاً أساسياً في السياسة الأميركية في المنطقة انطلاقا من لبنان وعلى عهد الرئيس ريغان. عندما تم تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة في 18 نيسان 1983 بواسطة شاحنة مفخخة قادها انتحاري لم تكن واشنطن تتوقع عملية من هذا النوع. عندما تم اغتيال سفيرها في بيروت فرنسيس ميلوي في 16 حزيران 1976على يد إحدى المنظمات الفلسطينية لم تأخذ واشنطن قرار نقل السفارة من بيروت الغربية إلى بيروت الشرقية. بعد تفجير السفارة كان القرار بالإنتقال إلى عوكر. قبل أن يحصل ذلك كان يتم تفجير مقر المارينز على طريق المطار في 23 تشرين الأول 1983 الذي أدى إلى سقوط نحو 241 جندياً أميركياً وإلى اتخاذ قرار خروج هذه القوات من لبنان من دون التخلي عملياً عن الدور السياسي والدبلوماسي. في تلك المرحلة لم يكن قد برز إلى العلن بعد اسم السيد حسن نصرالله ولا اسم سليماني الذي بحسب المعلومات التي انتشرت حوله بعد اغتياله كان يقاتل على الجبهات المفتوحة بين إيران والعراق بقيادة صدام حسين. تلك الحرب التي امتدت بين العامين 1981 و1988 اتهمت إيران واشنطن بأنها كانت تقف وراءها وانها كانت تدعم فيها مع دول الخليج الرئيس العراقي صدام حسين لتشكل سداً في وجه عملية تصدير الثورة التي أعلنتها إيران. ولكن إيران لم تعجز عن الإلتفاف عبر مطار دمشق ونظام الرئيس حافظ الأسد لترسل طلائع حرس الثورة إلى لبنان بالتزامن مع الإجتياح الإسرائيلي ولتبدأ مرحلة من الصراع المفتوح مع واشنطن والقوى التي تعتبرها حليفة لها في لبنان، ومن خلال هذا التدخل كانت الإستخبارات الإيرانية تجد مساحة واسعة للعب أدوار كثيرة. من هذه الأدوار بدأ الحديث عن عماد مغنية باعتبار أنه الرأس المدبر لعمليات التفجير ومنذ تلك المرحلة تحول مغنية إلى شبح تطارده معظم أجهزة المخابرات في العالم حتى تمكن الموساد الإسرائيلي من اغتياله في حي كفرسوسة في دمشق في 12 شباط 2008. منذ ذلك التاريخ لم يتردد حزب الله وإيران في تكرار التهديد بالإنتقام له. وهذا ما يحصل بعد اغتيال سليماني. هذا الإغتيال الذي جاء علنيا من حيث القرار والتنفيذ وتحمل المسؤولية لا يشبه اغتيال مغنية الذي بقي في إطار السرية وعدم التبني.
مرحلة فاصلة
اغتيال سليماني يعتبر مرحلة فاصلة في الحرب التي بدأت في العام 1982 مع تصدير الثورة وهو إيذان بالإعلان عن الحرب المعاكسة لإعادة الثورة إلى حجمها الطبيعي داخل إيران. عندما احتلت واشنطن أفغانستان كان النظام الإيراني مستفيداً من النتائج. وعندما أسقطت واشنطن نظام الرئيس صدام حسين كانت إيران مرحبة باستغلال النتائج. كان هناك ما يشبه مرحلة من الإرتياح غير الحذر للتعاطي من دون أن تكون هناك عدائية خصوصا على خلفية العداء المشترك الأميركي الإيراني للأصولية السنية التي تجسدت بغزوة 11 ايلول 2000 التي نفذها انتحاريون من تنظيم القاعدة بقيادة اسامة بن لادن في قلب الولايات المتحدة الأميركية التي لم يسبق لها أن تعرضت أراضيها لهجوم من هذا النوع حتى في خلال الحربين العالميتين.
أرادت إيران أن ترث التركة الأميركية في المنطقة خصوصا مع قرار الرئيس باراك أوباما الخروج من الساحتين الأفغانية والعراقية. ذهب أوباما إلى التفاوض مع إيران على توقيع الإتفاق بينما كانت قوة خاصة أميركية تقوم بعملية نوعية وتقتل أسامة بن لادن في مخبئه في باكستان في 2 ايار 2011. في المقابل عندما كانت القوات الأميركية الخاصة تقوم بعملية قتل أبو بكر البغدادي في سوريا في 31 تشرين الأول 2019 كان الرئيس دونالد ترامب يوجّه إنذارات متتالية إلى إيران بالعودة إلى داخل حدودها ويلغي من طرف واحد الإتفاق النووي ويطبق عليها عقوبات قاسية ويحظر تصديرها النفط ويطلب إلغاء برنامج صواريخها الباليستية.
اغتيال قاسم سليماني جاء ليشكل قمة التحدي بين ترامب والمرشد السيد علي خامنئي. الصواريخ الإيرانية التي استهدفت القاعدتين الأميركيتين في شمال العراق شكلت أيضا قمة القدرة على الرد. صحيح أن لا توازن في القدرات العسكرية بين الطرفين وأن إيران قد تكون تراهن على حرب استنزاف كما حصل في فييتنام ولكن من الواضح أن واشنطن تمتلك القدرة على الإنتصار ولو بعد وقت وهذا ما حصل في فييتنام عندما عادت إليها من باب الشركات والإقتصاد بعد ثلاثين عاما انتهت معها مفاعيل العقدة.
في لبنان تولى السيد حسن نصرالله مسؤولية رفع التحدي تحت عنوان طرد الجيش الأميركي من المنطقة واعداً بعدد كبير من الإستشهاديين. فهل يمكن أن يكون هذا الإعلان إيذاناً بالعودة إلى مرحلة الثمانينات؟ أم أن التصعيد الكبير لم يحصل إلا ليفتح الطريق نحو مفاوضات جديدة يتحدد معها دور إيران في المنطقة في ظل مواجهة لن تربح فيها مع واشنطن بغياب الرجلين اللذين قادا المواجهات منذ الثمانينات قاسم سليماني وعماد مغنية؟