Site icon IMLebanon

اغتيال الثورة بانتخابات ولا ديموقراطية

تتساوى الدول العربية ذات النظام العسكري الذي خلع ما قبله بتهمة مجافاته حقوق الناس ومطامحهم مع تلك التي تعيش شعوبها في ظل أنظمة بدوية مستعادة من الماضي، أي خارج العصر، والتي تحميها ثروات أرضها التي لا فضل لها فيها، مع الأنظمة ذات «النظام الديموقراطي البرلماني» كما الحال في لبنان، كما تدعي الطبقة السياسية التي استولدها هذا النظام الطوائفي فتولت حماية دوامه والمباهاة بديموقراطيتها بين الأمم!

كل هذه الأنظمة لم تؤمن بالديموقراطية يوماً بل هي جاءت، عموماً، من خارجها، وحكمت إما بادعاء القدرة على مواجهة الخطر الخارجي، العدو الإسرائيلي أساساً ومن يسانده، والتي لا بد أن تتقدم على الديموقراطية، وإما بادعاء التزام الديموقراطية بأدوات لاغية للديموقراطية، كالانتخابات المزورة بفعل المال أو التهييج الطائفي والمذهبي أو بفعل تكتل أصحاب المصالح المستقوي بالخارج، لا فرق بين عسكره وذهبه.

على هذا فالانتخابات، في الغالب الأعم، وفي مجمل الأقطار العربية، لعبة مكررة وممجوجة لا تعكس إلا إرادة النظام وأهله، عسكرياً كان أو مدنياً، كما في لبنان، من خارج إرادة الشعب ومصالحه.

يمكن استثناء التجربة التونسية المغسولة بدماء البوعزيزي والانتفاضة الشعبية التي استولدتها ووفرت مناخاً صحياً إلى حد كبير مكّن الناس من أن يفرضوا إرادتهم، فلما انتبهوا إلى أنهم أساؤوا الاختيار نتيجة المخادعة بالشعار الإسلامي عادوا فصححوا المسار وإن أعجزتهم التجربة الديموقراطية الوليدة عن اختيار من يجسد طموحاتهم في غد أفضل، وهكذا انتخبوا الأقرب إلى تمثيلهم عائدين إلى من رأوا فيهم قدراً من الكفاءة والنزاهة من أهل الماضي، متجاوزين العهد العسكري ومن فرضهم ممثلين لمصالحه وزبانيته باسم «الإرادة الشعبية» وموجبات «اللعبة الديموقراطية».

ولقد انعقدت الآمال على مصر ما بعد الميدان بطوفان الشباب الذي حضر بملايينه ففرض التغيير، وقدم نموذجاً رائعاً في الممارسة الديموقراطية، حتى عندما فاز فيها الأبعد عن تمثيلهم نتيجة افتراق قوى التغيير، مما حصر المنافسة بين عسكر العهد الذي ثاروا ضده وبين المرشح الإخواني الذي كان يحظى بدعم خارجي مذهب، وبسوء تقدير من أصحاب القرار لاحتمال الردة، ومصادرة الغد.

ولقد سلّم المصريون بخلع الرئيس الإخواني الذي حصر السلطات جميعاً في أيدي محازبيه، وجاهر بارتباطه بالتنظيم الدولي للإخوان بمشروعه المثقل بالشبهات والارتباطات الخارجية، مفترضين أن هذه خطوة نحو التصحيح بالديموقراطية.

ومرة أخرى، انتهت الأمور بحصر السلطة في يد قائد عسكري سرعان ما اختار معاونيه، وأشرف على وضع قانون انتخابي جديد تطلب مجادلات وخلافات وانشقاقات ذهبت بزخم شباب الميدان وشعارات التغيير الثوري، وأعادت اللعبة إلى رجال العهد الماضي و «حيتانه» الذين اندفعوا ينافقون «العهد الجديد» في خطته «لإعمار مصر» خصوصاً وأنهم يوفرون له شهادة حسن سلوك لدى الأنظمة النفطية بقيادة السعودية.

ثم جاء الجدل حول قانون الانتخاب، والتعديلات، ثم تعديل التعديلات، ومحاولة استقطاب قوى عهد ما قبل الإخوان، ومن يسمون الإسلاميون خصوم الإخوان ولا سيما السلفيين، فضاع الجمهور، ولم يعد يعرف ماهية القانون الناظم للعملية الانتخابية، وهكذا عاد إلى قوقعة السلبية والاستنكاف..

فلما جاء موعد الاقتراع التزمت الأكثرية الساحقة من الناخبين، ولا سيما الشباب، الصمت والاستنكاف عن «شرعنة» العملية الانتخابية بأصواتها، تاركة للعهد الجديد من اختارهم من بين أولئك الذين ثار عليهم الميدان وطالب بمحاسبتهم عن المال الحرام الذي جنوه عبر صفقات مشبوهة والتزام بتنفيذ مشاريع عملاقة لم تنفذ، ونفاق العهد الجديد على حساب إرادة التغيير وتمكين «شباب الثورة» من احتلال موقعه الطبيعي لو أن القرار بالتغيير كان جدياً وحاسماً.

لقد تمت عملية الاقتراع بلا ناخبين، فكانت الفضيحة مدوية، وأدت إلى اغتيال «مجلس الشعب» الجديد من قبل أن يكتمل نصابه، والأخطر أنها كشفت ارتباك «العهد الجديد» وتردده ونقص ثقافته السياسية، مما أصاب «عهده» بعطب خطير يمس صدقيته، ويباعد بينه وبين شباب الميدان الذين أنجزوا المهمة الأخطر في التغيير وهي إجبار النظام القديم على الرحيل، ثم رفض حكم الإخوان تماماً وإلى حد القبول بأن يكون الجيش رأس الحربة والمنقذ لها باعتباره «جيش الشعب».

لكن الجيش الذي استطاب طعم السلطة ومغانمها يصعب عليه أن يتخلى عنها وأن يسلمها حتى لمن افترض أنه كتب مقدمة الدخول في الديموقراطية شاكراً للجيش دوره في مساندته دعماً لعملية التغيير وفتحاً لباب الغد الأفضل.