عندما وثب عدد من المحامين السوريين من مقاعدهم في مؤتمر للمحامين العرب في القاهرة منذ أيام لينهالوا بالضرب والشتائم على محام لبناني شارك في المؤتمر لأنه تجرأ وأدلى برأيه حول انتهاك حقوق الانسان في سوريا، كان ذلك اهانة مباشرة اثارت سخط جميع اللبنانيين، دون أن تستدعي الحكومة اللبنانية السفير السوري لتطلب منه توضيحات ضرورية حول هذه الاساءة.
وقبل ثلاث سنوات، انقضت مجموعة من اتباع المخابرات السورية في بيروت في شارع المقدسي المحاذي لشارع الحمرا بالهراوات والسكاكين على تظاهرة مميزة لمفكرين وأدباء وصحافيين لبنانيين قدموا الى السفارة السورية للتعبير السلمي عن تنديدهم بالجرائم والمجازر التي يرتكبها النظام الأسدي بحق الشعب السوري، كان ذلك صفعة مدوية لحرية الرأي في لبنان.
لقد تبخرت قرارات الحكومات المتعاقبة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري بضرورة الاسراع بترسيم الحدود بين البلدين، الا ان الخبراء السوريين لم يحضروا اجتماعاً واحداً، ومع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا أصبحت حدودنا الشرقية مشرّعة كلياً، فما الجدوى من المراكز الحدودية وابلاغ السوريين القادمين الى لبنان ضرورة طلب تأشيرة رسمية؟.
كانت ذروة النوايا الأسدية نحو لبنان قد تجلّت منذ 38 سنة، يوم ادرك الشهيد الفذّ كمال جنبلاط ان دخول القوات السورية الى لبنان معناه مصادرة دمشق لحرية الرأي والتعبير عندنا. فحاول مكرهاً في اجتماع عاصف مع الرئيس الراحل حافظ الأسد ثنّي الأخير عن قراره بالتدخل العسكري على امتداد 4 أو 5 ساعات دون جدوى. وعندما كان جنبلاط يهم بنزول السلم في القصر الرئاسي في المهاجرين في دمشق، قال له الرئيس السوري مهدداً «كمال بيك، كمال بيك! أنصحك بتغيير رأيك!». لم يلتفت الشهيد وسار ثابت الخطى إلى قدره، إذ اغتيل في وضح النهار في آذار عام 1977 بعدها بشهور.
ان النظرة الفوقية وروح التعالي والاستخفاف بلبنان واللبنانيين عوضاً ان تتراجع وتخف وطأتها بعد انقلاب الأسد (1970) بذريعة وحدة الشعبين ووحدة المسار والمصير الخ.. راحت تتحول في ظل الوصاية الأسدية الى سيطرة كاملة للأجهزة السورية علينا، فتخيل للكثيرين داخل لبنان وخارجه ان قضم الوطن الصغير او ضمه، بات مسالة سنوات معدودات. الا ان القوى الحية للشعب اللبناني اطاحت في ساعات معدودات زمن الوصاية يوم 14 آذار عام 2005 الاغر.
لم نكن بالمستوى المطلوب من الوعي لما يحاك لنا في الظلام، وتكفي العودة للدور المريب الذي لعبته الأجهزة الأمنية الاسدية عندنا وممارساتها المتمادية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والاداء الرئيسي الذي لعبته دمشق في اشعالها، وما جرى خلال فترة الوصاية السورية، يوم اصبح لبنان بأسره، بمرافقه الحيوية ومفاصله الرئيسية وحياته السياسية ومؤسساته في قبضة النظام الاسدي، يومها اصبحت عاصمة لبنان الفعلية «عنجر» ولم تكن لا بيروت ولا قصر بعبدا، فمنها كانت تصدر القرارات الكبرى وتشكل الحكومة ويدار لبنان بأسره من هناك.
ولم تكن حال لبنان في ظل حكم الاسد الابن اقل سوءاً كما نعلم، وقد انتهت باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ومن يتابع جلسات المحكمة الدولية في لاهاي يدرك ما نقول عندما تظهر التحقيقات والادلة وافادات الشهود تلك الوقائع المذهلة للدور الفعلي لأجهزة المخابرات السورية والقيادة السورية فيما سبق الاغتيال، وما تلاه من اغتيالات وتفجيرات.
لقد فات المعتدين في مؤتمر القاهرة ان في لبنان حريات ورأياً حراً وحرية صحافة ومفكرين وأدباء وصحافيين وأهل قلم واعلاماً صريحاً، وان هؤلاء جميعاً يتابعون معاناة الشعب السوري وآلامه من جراء الحرب المدمرة التي تضرب سوريا. بل فات هؤلاء ان ثمة علاقة وطيدة بل عضوية تربط الشعبين، وان ثمة اسباباً جدية ومن الاهمية بمكان تجعل جميع اللبنانيين يولون اهتماماً خاصاً ومتابعاً لتطور الأوضاع في سوريا، فالكلام في الصحف العالمية والعربية والمحلية عن مأساة الشعب السوري، وعن كل اصناف البطش والقتل والتصفية والابادة الجماعية والقصف الجوي والمدفعي واحراق الأحياء واغتصاب النساء وخطف المعارضين واعتقالهم والاعدامات السرية وبراميل المتفجرات واستخدام السلاح الكيماوي بحق المدنيين العزل يعلمها اللبنانيون حق العلم. بل من لا يعلم من اللبنانيين ان حزب الله اللبناني منغمس في الحرب السورية حتى اذنيه، وان تورطه هناك الذي اتخذ منحى مذهبياً انعكس على الوضع اللبناني لدرجة انه بداعي وبحجة مقارعة الارهاب في سوريا يحمّل حزب الله تبعات ومسؤولية جر الارهاب الى ارضنا بالذات.
لا بل عندما ارتمى النظام الأسدي في احضان النظام الملالي الايراني كلياً فأحضر الى سرويا الميليشيات المذهبية والحرس الثوري الايراني للدفاع عن النظام القائم في دمشق، وعندما يتحدث القادة الايرانيون عن العراق وسوريا ولبنان انها جميعاً ولايات أو محافظات ايرانية.
حقاً قد اعترف النظام الأسدي باستقلال لبنان وجرى تبادل السفراء بين البلدين، لكن العقلية والنفسية والروح الاسدية لم تتبدل، فنظرة التعالي والوصاية والتدخل في شؤوننا لم تتغير. فما قاله احد محامينا في مؤتمر القاهرة يصدر على كل لسان وشفة الجماهير العربية، من القاهرة الى الرباط الى دبي.
لقد هال الوفد السوري الى المؤتمر المذكور ان يجرؤ لبناني على الكلام، وهم الذين انتقاهم بشار ليمثلوه هناك. لقد تعودوا ان يلوذ اللبناني بالصمت وان يتلقى التعليمات من دون مساءلة ولا اعتراض، حتى ولو كان حقوقياً او مثقفاً أو ادبياً أو من اهل الصحافة والقلم. إلا ان الزمن قد تبدل والتغييرات تتسارع والليل الاسدي لن يطول وهو الى زوال.