شُبتّ النيران، أمس، في عدد من مناطق الشوف، آتية على الثروة الحرجيّة، وطاوَلت المنازل موقِعة قتيلاً، ومُحدثة حركة نزوح كبيرة من المناطق المنكوبة، في ظل غياب الدولة عن مسؤولياتها.
السّاعة تُشير إلى ما بعد منتصف الليل في الشوف، ولكن الرؤية تؤكّد عكس ذلك. تبدو «الدنيا حمراء» كأضواءٍ خافتة، لا يحدّها سوى الضباب الذي يغطّي المكان عند كلّ نسمة هواء. سرعة الرياح تزيد الأمور سوءاً.
إذاً، لم يعد الحريق يقتصر على المشرف، بل امتدّ إلى عدد من المناطق الجبليّة والساحلية: من الدبيّة إلى أعالي الناعمة والدامور. المشهد مرعب. ألسنة النيران تلتهم الجبال التي لا تبتعد كثيراً عن المناطق المأهولة. إرتفاع أصوات الانفجارات بفِعل الألغام المزروعة في المكان، وخصوصاً في منطقة أنفاق الناعمة، حيث تُعدّ مركزاً عسكرياً لـ»الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين ـ القيادة العامّة». الدخان يتصاعد من كلّ حدب وصوب. السكّان يوصِدون الأبواب والشبابيك بإحكام، ومع ذلك لا تبدو الإجراءات مُجدية، إذ انّ روائح الحرائق أضحَت تصعّب التنفّس وتحرق العيون.
الكنائس تدقّ أجراسها. أصواتٌ تصدح من مكبّرات الصوت في المساجد وسيّارات تمرّ في المكان مطالبة السكان بإخلاء المنطقة. «برداً وسلاماً يا الله»… هكذا انتشر الوسم سريعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي لعلّ الدّعاء يُساهم في إطفاء الحرائق المنتشرة في المناطق الشوفيّة الساحليّة. البعض قرّر الصلاة في ساحات هذه القرى، ولكن لا مؤشرات الى إمكانيّة تحسّن الوضع.
النيران تتمدّد إلى المنازل. أصوات سيّارات الإسعاف تُرعِب السكان. كثيرون منهم قرّروا مغادرة المكان على عجل بعد منتصف الليل، حاملين من أغراضهم ما استطاعوا، فيما البعض آثَر انتظار التطوّرات.
من يملك سيّارة ومأوى في مناطق أخرى سارَع إلى الخروج من هنا. أمّا من لا يملكون، فساروا في «أراضي الله الواسعة». طوابير تنطلق من قرى الشوف وإقليم الخروب في اتّجاه الشوارع. بعض المحلّات التجاريّة عند الأوتوستراد السّاحلي التي لا تُقفل عادةً، غَصّت بالناس الذين لا يعرفون إلى أين المسار؟
مواقع التواصل الاجتماعي امتلأت بالمتطوّعين لاستقبال «النازحين الجدد»، وحتى أنّ بعض دور العبادة والفنادق والمطاعم أعلنت أيضاً أنّ أبوابها مفتوحة لاستقبالهم. سيّارات تشقّ طريقها وسط الضباب على الأوتوستراد السّاحلي.
تبدو ليلة الرّعب هذه عصيبة. هنا من يصرخ أنّ النيران وصلت إلى منزل قريبه، وهناك من يهرب طالباً من جيرانه التأكّد من أنّ الجميع باتوا في الخارج، إذ انّ النيران باتت على مرمى عيونهم، وهنالك من ينادي على امرأة مُقعدة تسكن وحيدةً ما زالت عالقة في منزلها.
مأساة حقيقيّة عاشَتها مناطق الشوف: النيران تلتهم الأشجار والأحراج، وتمتدّ لتصِل إلى بعض المنازل والسيّارات المركونة.
كلّ ذلك، والدولة نائمة. لا نائب ولا وزير ولا مسؤول قرّر الاستجابة لاستغاثات الناس. لا أحد اقتفى أثر أصحاب «الأبراج العاجيّة» في المكان. «وَينن؟».
لا أحد يجيب. المواطنون يطفئون الحرائق بوسائل بدائيّة. يخمدونها في مكان، فتشتعل في آخر. يعبئ هؤلاء الدِلاء من منازلهم ويحاولون تبريد بعض الأماكن القابلة للاشتعال تَنبّهاً لأي كارثة. الشبّان الملثمون (بفِعل الروائح) في الشوارع يساعدون عناصر الإطفاء والدفاع المدني، على قِلّتهم.
النيران تحاصر السكّان ولا غرفة لطوارئ اللجنة الوطنيّة لإدارة الكوارث تُتابع الوضع الميداني قبل الصباح، ولا قرار رسمياً بالنزول على الأرض قبل الساعة السابعة من صباح الأمس، عندما تحرّكت الطوافات القبرصيّة من مطار بيروت في اتّجاه المناطق المنكوبة وعندما تحرّك أفراد أفواج إطفاء المناطق، على اعتبار أنّه لا يُمكن توجّه العناصر إلى الميدان ليلاً وهم لا يعلمون جغرافيّة المنطقة، وفق أحد المسؤولين.
… والدولة ما زالت مخدّرة. لا موقف ولا تدخّل ولا حتّى أي توجيه. وحدها مظاهر التّكافل الاجتماعي أنقذت بلداً يحترق من جنوبه إلى شماله. الشهيد سليم أبو مجاهد، الذي توفي وهو يحاول المساعدة في إطفاء الحرائق، هو ضحيّة سلطة تترك شعبها في مهب الكوارث، تقول لهم بوقاحة: موتوا، فنحن بخير. سلطة تقف متفرّجة على جسدٍ تأكله النيران من دون أن يرف لها جفن، بل تنام ملء عيونها.
هذه السلطة التي تركت الطائرات التي «تَسوَّلتها» لإخماد الحرائق، بلا صيانة وحَوّلتها خردة. هذه السلطة التي رفضَت تثبيت عناصر الدفاع المدني بحجج وذرائع واهية. هذه السلطة التي لا تمتلك ذرّة من الوقاية ولا تضع خطة طوارئ. هذه السلطة التي ينام في أدراجها مشروع قانون تحويل «وحدة إدارة الكوارث» المختصة في إدارة الأزمات الى هيئة، ومع ذلك تدفع الرواتب لأعضاء هذه الوحدة!
بعد كلّ هذه الحرائق التي اندلعت خلال اليومين الماضيين، يُمكن القول إنّ هذه السلطة لم تعد مهملة ومقصّرة، ولا حتى فاسدة. سلطتنا ارتقَت الى مرتبة السلطة القاتلة… الجزّارة!
هل يعلم «مستغلّو» هذه السلطة كيف تُرِكَ سكان المناطق المجاورة لمطمر النّاعمة يعيشون على أعصابهم جرّاء التفكير في إمكانيّة وصول النيران إليه، ليمحو منطقة بكاملها؟
هذا ليس كلاماً في الهواء، بل يشدّد الخبير البيئي د. ناجي قديح لـ»الجمهوريّة» على أنّ «اقتراب النيران من المطمر يعني كارثة حقيقيّة ولا يُمكن توقّع حجمها، إذ انّه مصدر لانبعاثات الغازات القابِلة للاشتعال، وخصوصاً غاز الميثان».
في حين يشير مدير وحدة إدارة الكوارث لدى رئاسة مجلس الوزراء، زاهي شاهين، لـ»الجمهوريّة» إلى أنّ الدفاع المدني إتخذ إجراءات حماية للمطمر لصعوبة إخماده في حال اقتربت النيران منه، وذلك عبر ترطيب المنطقة المحيطة به وعَزلها. ولكن هذا لا يريحنا إذ انّنا لا نعلم ماذا يمكن أن يحصل في حال اشتدّت الحرائق».
ولكن هل كانت هذه الحرائق مُفتعلة؟
في المحصّلة، وقعت الكارثة باندلاع أكثر من 140 حالة حريق، وفق شاهين، الذي ينفي ما يتم تداوله من أنّ الدّفاع المدني استجاب لـ450 حريقاً.
لا يملك المتابعون إجابة عن هذا السؤال، ولو أنّ بعضهم يرجّح هذه النظريّة من دون أن يتبنّاها. ويقول رئيس فرع مصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي وسام أبو خشفة لـ»الجمهوريّة» إنّ «الظروف المؤاتية لاندلاع الحرائق كثيرة، وأهمّها: الأشجار اليابسة خلال الخريف، الهواء الجاف، قلّة الرطوبة، الحرارة المرتفعة وسرعة الرياح الشرقيّة الحارّة، خصوصاً أنّ معدّل الحر تخطّى المعدّلات الموسميّة مع موجتَي حَر آتيتَين من الخليج وشمال افريقيا. كلّ ذلك ساهم في امتدادها، ولكن ليس في إشعالها».
هذا أيضاً ما يؤكّده قديح، الذي يُشير إلى أنّه لا يمكن إغفال نظريّة افتعال الحرائق، ومع ذلك فإنّ الهواء القوي والنّاشط يؤدي إلى اشتعال الحرائق لأيّ سبب صغير، خصوصاً أن لا إجراءات متّبعة للتخفيف من حجم الأضرار.
من يُعوّض الخسائر؟
بالطّبع، لا يكترث مَن تضرّر منزله أو سيّارته وذهب «شقاء عمره» أمام عينيه، لكلّ هذه النظريات. ما يعني المتضررين اليوم هو ما إذا كانت الدولة ستعوّضهم خسائرهم. يتخوّف بعضهم من أن تنسى الدولة ملفّاتهم، تماماً كما حصل للمتضررين من العاصفة «نورما»، التي بعد مضي أكثر من 10 أشهر على هبوبها ورَفْع تقرير يحدّد الأضرار بكلفة 40 مليار ليرة، لم يقبض المتضررون بعد فِلساً واحداً من الدولة!
لا يريد رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير إحباط المتضررين، بل يؤكّد لـ»الجمهورية» أنّ البلديات المعنيّة رفعت له تقريراً بحجم الأضرار الماديّة، ليحيلها إلى الجيش حيث يقوم المعنيون بالكشف الميداني، ثم تُحال إلى مجلس الوزراء لتزويد «الهيئة» المبلغ اللازم. وحينها، يمكن المتضررين تَسلّم الشيكات مباشرة.
أمّا عن الأضرار الماديّة، فيلفت خير إلى أنّ التقارير في الشوف تشير إلى تضرّر 10 منازل و13 سيّارة (11 في الدامور و2 في الناعمة).
في حين أنّ هذه الأرقام تتناقض مع المعاينة الميدانية لفرق الدفاع المدني وفوج الإطفاء، إذ يؤكّد بعض من ساهموا في إطفاء الحرائق أنّهم عاينوا أكثر من 10 فيلّات تَضَرّرَ معظمها من الخارج في المشرف، و3 منازل في حارة الناعمة و2 في الناعمة.
يتحدث هؤلاء المتطوعون في الدفاع المدني وفوج الإطفاء عن حالات ضيق التنفس التي أصابت بعضهم وعالجوها سريعاً قبل تفاقمها، وعن المعاناة التي مرّوا بها حتى وصل الأمر إلى استخدام عبوات المياه المعدنيّة لتبريد الجَمر ريثما تكون آليّاتهم قد عادت إلى المكان بعد تعبئة المياه في خزاناتها، بالإضافة إلى الاستعانة بسلّم آليّ لإجلاء السكّان، واضطرارهم الى تسلّق الجبال والوصول إلى مناطق يصعب الوصول إليها عبر الآليّات.
يُجمِع سكّان المناطق المنكوبة على أنّ هؤلاء العناصر هم الذين شكّلوا لهم درع الحماية في هذه الليلة العصيبة. أمّا عن عددهم، فلا يملك شاهين رقماً رسمياً، خصوصاً أنّ موظفين ومتطوعين وسكّان المناطق شاركوا في أعمال الإخماد، لافتاً إلى أنّ 35 آلية استقدمت إلى المكان.
ويشير شاهين إلى أنّ «كلّ الإمكانات متوافرة للتعامل مع الأزمة، كما تم تفعيل آلية الدّعم الدولي، فوصلت طوافات أردنيّة بعد القبرصيّة، على أن تصل 4 طوافات إيطالية ويونانيّة فجر اليوم، فيما أبدَت مصر وبريطانيا استعدادهما للتعاون. وبالتالي، سيكون عدد الطوافات التي ستساهم في إخماد الحرائق اليوم ثلاثة أضعاف عمّا كانت عليه أمس».
ومهما يكن من أمر، يبدو أنّ عدالة الطبيعة أنقذت لبنان، حيث ساهمَ هطول المطر في أول غَيثه أمس في حصر الحرائق.
ويؤكّد أبو خشفة أنّ موجة الحر والجفاف ستنحسر تدريجاً بدءاً من اليوم، مع تجدّد الأمطار فجراً وبعد الظهر، ما يُساهم في إخماد الحرائق. لافتاً في الوقت عينه إلى أنّ إمكانيّة هبوب الهواء عند الفجر يمكن أن تساعد في استمرار ذيول الحرائق، ولكن ليس تمدّدها.
من جهته، يشير خبير البيئة حبيب معلوف إلى أنّ الشتاء حسم الموضوع وأنهاه، خصوصاً أنّه بَرّد المناطق التي لم تشتعل، وبالتالي صَعّبَ إمكانيّة اشتعالها أو تمدّد النيران.