صبيحة هذا اليوم يتوقع أن ينزل الشارع كله الى السلطة كلها ليخوضا وجهاً لوجه فصلاً آخر من فصول المنازلة المستمرة منذ فترة، وكلاهما يحمل معه هواجسه وحساباته الدقيقة.
قوى السلطة ستتكوكب حول طاولة حوار بيضوية في مجلس النواب مبدئياً (إلاّ إذا قرر الرئيس نبيه بري نقلها الى عين التينة في اللحظة الأخيرة)، فيما الحراك في الشارع مضطر الى أن يبذل جهوداً مضاعفة ليثبت لنفسه وللمتحاورين وللرأي العام الراصد له على السواء أنه ما زال رقماً صعباً في المعادلة، وانه ما برح فواراً لم يعتره وهن، أو إن بدأ رحلة العدّ التنازلي على ما يروّج البعض.
واكثر من ذلك يتعين على الحراك الشعبي أن ينطلق مما راكمه في سيرته الاحتجاجية التي انطلقت متواضعة منذ تموز الماضي لتبلغ الذروة في 22 آب وبعده، خصوصاً أنه، على اختلاف تلاوينه ونسخه، يأنس من نفسه قوّة ويستشعر انه حفر لنفسه حيزاً غير قليل في المشهد السياسي اللبناني يتميز عن كل ما سبقه من حراكات شعبية وتحركات مطلبية وذلك بناء على جملة وقائع ومعطيات عدة أبرزها:
– ان واقع الدولة والسلطة بلغ في الآونة الأخيرة دركاً من الوهن والضعف والانفلاش غير مسبوق إلا في أيام الحرب الأهلية.
– ان الحراك صار عامل جذب لشرائح واسعة من المواطنين الى درجة أن أبناء تمردوا على ارادة آبائهم وتسللوا لينضموا الى الحراك في الشارع، وأبناء أحزاب وقوى وتيارات ضربوا عرض الحائط برؤى أحزابهم وخرجوا ليشاركوا في الحراك.
– ان ثمة استطلاعات أجريت أخيراً أكدت أن ما يفوق الـ80 في المئة من اللبنانيين يؤيدون الحراك ويتعاطفون مع ما يرفعه المشاركون من شعارات ومطالب.
– الى ذلك، ثمة اقتناع لدى المتصدين لقيادة الحراك فحواه ان حراكهم قد أعطى أكله بأسرع مما كانوا يتوقعون بدليل ان السلطة تراجعت تحت ضغط الحراك عن قرارات سبق لها ان اتخذتها، وبدليل ان ذهابها الى الحوار ما كان إلا تحت وطأة الحراك مما بدّد مقولة يروجها بعض أركان السلطة أنفهسم وجوهرهاً أن الحراك في الشارع هو دوماً عقيم، بل هو مجرد صرخة في واد قصي. وفي المقابل، فإن السلطة بمكوناتها الأساسية تدرك أنها لبت دعوة الرئيس بري الى الحوار لأنها قاصرة في الوقت الحاضر عن الرد على مطالب الشارع الذي يتحرك فوق صفيح ساخن، ولأنها عاجزة عن اداء المهمات المنوطة بسلطتها الاجرائية التي بلغ بها الانقسام الداخلي حد الشلل والتعطيل.
فتجاوب طاولات الحوار بنسختيها منذ عام 2006 وحتى اليوم ما هي إلا تعبير عن بلوغ قاع الأزمة، أو لأن الأمور وصلت الى مرحلة الاستعصاء والانسداد وتعطل العمل في مؤسسات الدولة القادرة على الحل والعقد.
وعليه، ولأن تجربتي الحوار السابقتين ما فتحتا أبواباً موصدة وما حلتا عقداً مربوطة، فإن الداعي الى الحوار، أي الرئيس بري، آثر منذ البداية ان يبث مناخات ويطلق أجواء سياسية متواضعة نسبياً حول أبعاد الحوار ومساره ونتائجه المتوخاة فحواها الآتي:
– اقناع الجميع على ضفتي السلطة والحراك في الشارع بأن الحوار مركب النجاة، من أدركه أمّن فرصة الانقاذ، ومن تخلّف عنه تاه في لجّة الأزمة والشبهات.
– ولأن بري يعي، وهو من كان به خبيرا، أن ما من قوّة تملك في الوقت الحاضر فرصة تقديم بديل من الحوار يقيها شبهة العجز، فإنه (بري) رمى قفاز التحدي بوجه الجميع عندما لوّح بأنه مستعد لفرط عقد الحوار اذا ما جارى مكون ثان حزب “القوات اللبنانية” وقاطع الحوار.
– أكد بري لمن يعنيهم الأمر أنه ما ولج باب الدعوة الى الحوار إلا بعدما لمس تشجيعاً من سفراء دول أساسية ومباركة خفية من دول معنية بالشأن اللبناني، علماً أن ما من دول يمكنها ألا تشجع دعوة حوارية لقوى تتساكن في حكومة واحدة.
– أراد بري أن يظهر لمن يعنيهم الأمر أن ما هو مقدم عليه من حوار يختلف عن الحالات المماثلة السابقة لكون البنود المطروحة محلية صرفة، وانه يمكن أن يشرع فوراً في ترجمة، وتشريع، ما يتفق عليه، مطلقاً على الحوار صفة أنه آخر فرصة للببنة الاستحقاقات الملحة.
– أيضاً أوحى بري لمن يعنيهم الأمر أنه ما كان له أن يلج هذا الباب لو لم يكن يستند الى معطيات بأن أفق المنطقة يختزن مؤشرات لحلول وبوادر تسويات محتملة، وأن الواجب على اللبنانيين التحضر لملاقاة ما هو منتظر.
باختصار، يعرف بري أنه يمسك الجميع من اليد التي تؤلمهم، ولكنه يعلم أن ما من أحد يمكنه الرفض والتحلل والتفلت (إلا “القوات اللبنانية” وذلك بناء على حسابات بعيدة المدى، أو بناء على لا حسابات إلا التميز والتفرد)، وبالتالي ما من أحد يمكنه التخلف عن حضور الحوار وخصوصاً في مراحله الأولى.
ثمة من يرى أن ورشة الحوار في ظل الظروف الراهنة، الداخلية منها والاقليمية، وفي ظل عودة الصراعات والحروب الاقليمية الى الذروة في الآونة الأخيرة، ما هي إلا عملية تذاك وتشاطر من الاطراف الداخليين كافة، فهي:
– جزء من لعبة “ادارة الفراغ” التي بدأت رسمياً بعد انضواء كل القوى في حكومة “المصلحة الوطنية” وذلك في مرحلة الانتظار الأطول في تاريخ لبنان.
– انها محطة من شأنها أن تدحض عن قوى السلطة تهمة العجز عن الفعل والمبادرة وصفة الاستسلام التي لحقت بها.
– انها أيضاً متراس انشأته قوى السلطة ولو على عجل لتستوعب هجمات حراك الشارع واندفاعته.
وحيال كل تلك المعطيات، لمن ستكون الغلبة؟ للشارع المتحفز المتسلح بأقصى حيوياته، أم للسلطة الباحثة عن حبل نجاة وسلّم انقاذ يخرجها من دائرة عجزها؟
ثمة من يستشرف من الآن النتيجة سلفاً بالقول إن ما من أحد سيطغى على الآخر، فالحراك سيظل هتافاً واعتصامات وحركات احتجاج، والسلطة ستبقى تحاور نفسها الى ما شاء الله.