يدأب المحللون هذه الأيام على مُعاينة الأسباب التي دفعت بروسيا للإعلان وبقوة عن قرب تدخّلها العسكري المباشر في الأحداث السورية، ومشاركتها في ضرب تنظيم «الدولة الإسلامية»، على رغم أنّ لعملية كهذه آثاراً سلبية في داخل المجتمع الروسي الذي لا يكاد يدخل في أزمة حتى يخرج من أخرى، وهو في تخبّط كبير ظهرت معالمه واضحة في عدم القدرة على معالجة الأزمة مع أوكرانيا وفقدان السيطرة والتأثير على مجريات الأمور هناك، وصولاً الى اغتيال المعارض نيمتسوف الذي طرح علامات إستفهام كثيرة حول مصير الديموقراطية المزعومة في روسيا ومنهجية الحكم البوتيني.
يستند المحللون الروس الموالون والمهللون، المعارضون والرافضون للتدخّل الى أنّ السبب الرئيس الذي يقف خلف كلّ هذه البروباغاندا التي يمارسها الكرملين حول الإرهاب ومكافحته يحمل خلفية إقتصادية، وفي حال عدم التمكّن من معالجتها سيسقط معها كلّ ما حمله الحكم الحديث في روسيا من إرهاصات أو نجاحات في مقارعة الغرب، وأبرز تجلّياته المغامرة غير المحسوبة في ضمّ القرم وإفتعال الأزمة في أوكرانيا وفي جمهوريات أخرى.
النفط والغاز
يأتي هذا الكلام وفق مراقبين مع بدء استخراج النفط والغاز الصخريّين في أميركا، والذي تزامن مع إندلاع الثورة السورية عام 2011، ليقول الخبراء هنا، إنّ هذا ما جعل الولايات المتحدة تتخلّى عن الغاز القطري بالضبط وهو بات ينتج محلياً وبكلفة أقل، بحيث خسرت الإمارة الصغيرة والتي تحتلّ المرتبة الثالثة في العالم بإنتاج هذه المادة، أهم أسواقها، وهي السوق الأميركية.
هذا ما فرض على قطر البحث عن أسواق أخرى ومستهلكين جدد، وأهم هؤلاء هم الأوروبيون. هنا بدأت قطر التفكير بإنشاء خط لنقل الغاز الى هناك، وهذا الخط كان يُفترض أن يمرّ عبر المملكة السعودية وسوريا نحو تركيا، الى الخط الأناضولي نحو أوروبا. لكنّ الرئيس السوري الذي وافق بداية عاد واعترض على إنشاء هذا الخط حفاظاً على علاقاته مع روسيا وإيران اللتين يعتبرهما حليفين استراتيجيين. إعتراض كان نقطة التحوّل الكبرى في مسار الصراع.
ويقول هؤلاء إنّ هذا السبب بالذات، أيْ استحداث الخط القطري، هو ما كان وراء تراجُع بلغاريا وتركيا لاحقاً عن استخدام خط الغاز الروسي الى أوروبا، ذلك أنّ التعامل مع قطر مختلف تماماً، وبالتالي فقد جرى تضييق الخناق على روسيا التي بدأت تفقد أهم مصادرها المالية بالتزامن (الغاز والنفط) مع العقوبات بسبب الأزمة الأوكرانية، حيث بات من الضروري والمُلحّ تعزيز التواجد العسكري في سوريا، خصوصاً أيضاً أنّ كلّ التقارير الإستخبارية التي كانت ترد الكرملين تشير الى أنّ نظام الأسد على قاب قوسين أو أدنى من الإنهيار، وبالتالي لا بدّ من التدخّل لفرض واحتكار ضخّ الغاز الى أوروبا.
أما السبب الثاني فهو أنّ تدفّق اللاجئين الى أوروبا فتحَ الباب واسعاً أمام مطالبة أوروبية للإطاحة بالأسد، أضف الى أنّ إيران التي وقّعت إتفاقها النووي مع أميركا باتت أقرب الى تخفيف العقوبات عنها، وترغب أيضاً بإنشاء خط أنابيبها عبر سوريا نحو أوروبا، فسقطت الأحلام الروسية بالإستفراد في تصدير الغاز الإيراني لبيعه في الأسواق العالمية كما كانت تفعل بالتحايل على العقوبات. كلّ هذه العوامل فرضت على الكرملين القرار النهائي بالتدخّل من دون حسبان النتائج.
إذا صحّ هذا التحليل، وصحّت هذه المعطيات، فإنّ القضية إذاً ليست قضية إستقرار، ولا قضية حماية نظام، ولا ضرب الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بقدر ما هو الحفاظ على الضخّ المالي المتأتّي من النفط والغاز للحفاظ على السلطة وتمكينها، وليس مهمّاً هنا كم من الأرواح ستُزهق، سواءٌ من السوريّين أم من الجنود الروس،
ذلك أنّ هناك اعتقاداً في دوائر إقتصادية روسية يشير الى أنّ هذا التدخّل يمكن أن يُعيد الى النفط والغاز سعره ويفرض نفسه على السوق ويُبقي على الموارد ويمنع التبعية الإقتصادية الروسية للغرب، إضافة الى كونه سيؤخّر دخول غاز إيران أو غاز قطر الى السوق الأوروبية.
اذاً كان النجاح الروسي في إبعاد شبح المنافس التركمستاني القوي عام 2008 من السوق الأوروبية بعد تعرُّض الأنبوب الذي يضخّ الغاز التركماني الى أوروبا لعمل تخريبي، ما دفع هذا المنافس نحو السوق الصينية، كما أنّ القضاء على المعرقل الآخر الجيورجي باعتبار أنّ خط نابوكو كان يمرّ عبر جيورجيا بسبب الحصار على إيران الذي ينقل الغاز من أذربيجان،
كازاخستان، فتركمنستان نحو أوروبا، ليأتي إسقاط ساكاشفيلي وسحق جيشه بأقل من ساعتين كتعبير آخر عن الرغبة الروسية بحماية مصالحها الإقتصادية بأيّ ثمن، حيث حافظت هذه الحرب على مصادر مالية هائلة لحماية الدولة وحماية إستقرارها لسنوات عدة الى الأمام، فإنّ المصيبة تأتي من حيث لا تتوقع، وهذه المرّة برزت الى الواجهة طموحات قطر بتصدير غازها الى أوروبا لتشكّل خطراً وجودياً على المصالح الروسية، خصوصاً بعد التفاهم مع تركيا وموافقتها على مدّ خط الأنابيب القطري عبر أراضيها، ما يعني إحياء خط نابوكا من جديد.
كلّ هذه الهواجس تدفع الروس نحو التدخّل، فلا بدّ من حماية الخطوط، والحفاظ على مصادر الضخّ المالي، حتى إنّ معلومات باتت ترشح من مصادر عدة بأن شركة غاز بروم هي مَن خطّطت لهذا التدخّل الذي لا يعرف أحد نتائجه أو أبعاده.
فرض شروط على المنافس الإيراني
وللعملية وجه إقتصادي، فالإمساك بسوريا يعني فرض شروط على المنافس الإيراني عبر العراق فسوريا نحو أوروبا، والمفترض إنتهاء العمل فيه عام 2018، فهذا الصراع حول خطّي الغاز القطري والإيراني والتحكّم بالسوق الأوروبية هو السبب الرئيس للمغامرة الروسية في سوريا، وتعزيز التواجد العسكري في طرطوس واللاذقية وتأمين السيطرة على شركة التكرير في بانياس، كما أنّ التدخّل سيسقط الخط الجنوبي الآتي من مصر وسيناء ما يُسمّى الخط العربي عبر الأردن فدمشق، ومن ثمّ الى حمص.
إذا صحّت هذه التحليلات، يبدو التدخل الروسي يحتاج الى كثير من الجهد، ذلك أنّ روسيا لا تستطيع خوض حرب على جبهتين في أوكرانيا وسوريا في آن واحد، كما لا ضمانة في أنّ الرأي العام الروسي سوف يبقى صامتاً، والتجربة الأفغانية والشيشانية لا تزال تترك ندوباً مجتمعية، أضف الى أنّ المعارضة الروسية الهجينة تنتظر سقطة بوتينية كهذه، وبالتالي يجوز القول ومع هذا التحليل إنّ التدخّل سيأتي بالقدر الذي يسمح بفتح باب المساومات من أجل إعادة رفع سعر النفط العالمي والغاز من خلال تسخين الجبهات،
وإن كان بوتين متصلباً، فهذا لا يعني أنه سوف يُقدِم على مغامرة غير محسوبة النتائج، ولا ضير من التدخل من أجل المصالح وإن كان الثمن ترحيل بشار الأسد الى «داتشا» في سوتشي، أو تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية، أو تسليمه لمحكمة شرعية في المملكة العربية السعودية، وفق تعليق خبراء روس يتابعون هذا الملف عن كثب.