تردّي الوضع المالي والإقتصادي في لبنان وغياب السياسات الإقتصادية الفعّالة تدفع بالعديد إلى التساؤل عن أسباب صمود لبنان وعدم إنهياره. في الواقع هناك عاملان سمحا للبنان بالصمود وهما مساهمة المغتربين اللبنانيين في الإقتصاد والسياسة النقدية التي يتبعها مصرف لبنان.
لا يُمكن الحديث عن تدهور لبنان ماليًا وإقتصاديًا من دون الرجوع إلى ميزان المدفوعات الذي يُشكل حاليًا نقطة الضعف الأساسية التي سيُحاسب عليها لبنان في التصنيف الإئتماني بالإضافة إلى العامل السياسي الذي ستُعطيه وكالة التصنيف الإئتماني ستاندارد آند بورز وزنًا كبيرًا في الثالث والعشرين من آب الجاري.
هناك مكوّنان أساسيان لميزان المدفوعات:
المكوّن الأول – العمليات الجارية وهي تبادل السلع والخدمات الذي تُجريه الدّولة مع الخارج. ويُعتبر رصيد المعاملات الجارية (الحساب الجاري) في حالة توازن عندما يكون ما يخرج من الإقتصاد كسلع وخدمات مساوياً لما يدّخل إليه من سلع وخدمات، في هذه الحالة يكون ميزان الحساب الجاري يساوي صفراً. أمّا إذا كان هذا الحساب سلبياً، فهذا يعني أنّ الحساب الجاري في عجز وإذا كان إيجابياً فهناك فائض.
في لبنان الحساب الجاري في حال عجز كبير نتيجة ضعف الماكينة الإقتصادية اللبنانية ونتيجة الإفراط الكبير في الإستيراد حيث بلغ هذا العجز 12.45 مليار دولار أميركي في العام 2018 أي ما يوازي 23% من الناتج المحلّي الإجمالي! وهذا الواقع لوحده كفيل بضرب ميزان المدفوعات في لبنان.
المكوّن الثاني – حركة رأس المال غير النقدّي الذي يُمكن إختزاله بتبادل رؤوس الأموال التي تهدف إلى الإستثمار. وبالتالي فإنّ حساباً يساوي الصفر يعني أنّ الإستثمارات الداخلة إلى لبنان توازي الإستثمارات الخارجة منه. أمّا إذا كان إيجابيًا، فهذا يعني أنّ البلد يتلقّى إستثمارات أكثر ممّا يقوم هو به في الخارج والعكس بالعكس.
في لبنان حساب حركة رأس المال غير النقدي هو إيجابي وقد سجّل 1.55 مليار دولار أميركي في العام 2018 أي ما يوازي 2.87% من الناتج المحلّي الإجمالي. الجدير ذكره أنّ هذا الحساب وصل إلى 1.83 مليار دولار أميركي في العام 2015.
وبالتالي يُصبح حساب ميزان المدفوعات مجموع هذين الحسابين عملًا بالمعادلة التالية: حساب ميزان المدفوعات = الحساب الجاري + حساب حركة رأس المال غير النقدي.
إذا كان هذا الحساب إيجابياً، فهذا يعني أنّ هناك دخولاً لرؤوس الأموال بالعمّلة الصعبة إلى البلد، وإذا كان سلبيًا، فهناك خروج لهذه العملة. وبالتالي وبشكل تلقائي يتمّ التأثير على إحتياطات المصرف المركزي من خلال المعادلة التالية: تغيّرات الإحتياطي من العملات الأجنبية = حساب ميزان المدفوعات.
من وجهة نظر إقتصادية، ميزان المدفوعات يكون في حالة توازن عندما يكون التغير في الاحتياطيات يساوي صفرًا. لكن هذا لا يعني أنه في حالة توازن ثابت إذا يُمكن تصفيره من خلال الإستدانة من الخارج الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى خلل مُستقبلًا بسبب دفع الفائدة في حال لم يتمّ إستثمار هذا الإقتراض في الإقتصاد وخلق نموٍّ كفيل بتغطية هذه الفائدة. من هذا المُنطلق، طرح معظم الإقتصاديين مسألة إستقرار توازن ميزان المدفوعات وخصوصًا معرفة إذا ما كانت هناك آليات إعادة التوازن بشكل تلقائي والتي من شأنها أن تُزيل العجز أو الفائض،
من هنا تأتي مُشكلة ميزان المدّفوعات الذي يؤثّر على البيئة الإقتصادية، البيئة المالية، والبيئة النقدّية عملًا بالمبدأ التالي: ضعف الإستثمارات الداخلية في لبنان وتراجع الإستثمارات الأجنبية المباشرة منذ العام 2011، أدّيا إلى تراجع وتآكل الماكينة الإقتصادية التي لا تستطيع تلبية حاجات السوق اللبناني.
هذا الأخير يعمد إلى استيراد إحتياجاته من الخارج، واستفحّل في ذلك منذ العام 2005 حيث شهد لبنان إرتفاعًا كبيرًا في الإستيراد رافقه نموّ داخلي وصل إلى 9% في الأعوام 2007-2010، وذهب هذا النموّ إلى الإقتصادات الأخرى من دون أن يستطيع تحويل جزء منه إلى إستثمارات في القطاعين الأوّلي والثانوي (الزراعي والصناعي). وللأسف كانت الحكومات ملهيّة في حلّ مشاكلها السياسية التي عصفت بلبنان منذ إغتيال الرئيس الحريري وحتى أحداث قبرشمون الأليمة، وبالتالي لم تقمّ بأيّ إجراء لتدارك الوضع. إذًا ضعف الماكينة الإقتصادية أدّى إلى خلق عجز في الميزان التجاري، إنتقل تلّقائيًا إلى عجز في الحساب الجاري وتحوّل إلى عجز في ميزان المدّفوعات.
وكأنّ هذا لا يكفي، أخذت الدوّلة اللبنانية بالإقتراض بالعملة الأجنبية إن من خلال سندات اليوروبوندز أو من خلال مؤتمرات باريس… وذلك لحاجتها لسدّ ثمن إستيرادها للسلع والبضائع والخدمات التي تستوردها على مثال المحروقات لشركة كهرباء لبنان أو حتى حين تطلب خدمات إستشارية من مكاتب دراسات…
في موازاة ذلك، كانت المالية العامّة تعيش أتعس أيامها مع إرتفاع هيكلي في عجز في الموازنة إن بالعملة اللبنانية أو بالدولار الأميركي! وأصبحت الحكومة تستدين بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي لتغطية إنفاقها الجاري أي بمعنى أخر لم تعدّ تملك أيّ هامش مالي للإستثمار في الماكينة الإقتصادية عملًا بالنظرية الكينزية. هذا الأمر جعل وكالات التصنيف الإئتمانية تُخفّض من تصنيف الدولة الإئتماني وزادت الفائدة على الإقتراض وأصبح حجم الفائدة الناتجة عن الإستدانة بالدولار الأميركي يصل إلى 2.5 مليار دولار أميركي سنويًا قسم منها يخرج خارج لبنان!
وهنا يُطرح السؤال: إذا كان الإقتصاد يفتقر إلى الإستثمارات، مالية الدولة تُسجّل عجزًا مُزمنًا، المواطن اللبناني يستفحل في الإستيراد، ووكالات التصنيف الإئتماني لا تنفكّ تُخفّض تصنيف لبنان الإئتماني، كيف إستطاع لبنان الصمود حتى الساعة؟!
في الواقع هناك عاملان أساسيان ساعدا في الصمود:
أولًا – مساهمة المُغتربين اللبنانيين في الإقتصاد من خلال عدّة قنوات. فقد بلغ حجم هذه المساهمة منذ العام 2002 وحتى العام 2017 ما يُقارب الـ 156 مليار دولار أميركي (بمعدّل 10 مليار د.أ سنويًا) موزّعة على الشكّل التالي: السياحة (7.88 مليارات د.أ)، التحاويل (100 مليار د.أ)، شراء العقارات (12.6 مليار د.أ)، وودائع في المصارف (34.68 مليار د.أ). هذه المساهمة لعبت دورًا أساسيًا في تخفيف عجز ميزان المدّفوعات.
ثانيًا – الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان والتي إعتبر البنك الدوّلي أنها أنقذت لبنان في الأوقات الصعبة. وينصّ مبدأ هذه الهندسات على إدخال العمّلة الصعبة إلى لبنان بهدف زيادة إحتياط المصرف المركزي، ولكن الأهمّ وقف نزف ميزان المدّفوعات الذي عجزت الحكومات المُتعاقبة عن معالجته!! ففي العام 2016، إستطاع المصرف المركزي رفع إحتياطاته بقيمة 12.5 مليار دولار ما أعفى لبنان من آتون عاصفة مالية ونقدية كانت لتُطيح بالكيان اللبناني.
الجدير ذكره وكما سبق الذكر أعلاه، أنّ مسألة إستقرار توازن ميزان المدفوعات هي مسألة مطروحة بإستمرار وبالتالي مُهمّة الحكومة دعم الإقتصاد لتقويته والحصول على قدرة لإكفاء قسم كبير من حاجات السوق اللبناني، ومُهمّة المصرف المركزي دوزنة ميزان المدفوعات كي يكون متوازنًا أي لا يُسجّل فائضًا ولا عجزًا.