تدفع «حماس» ويدفع معها الفلسطينيون عموما ثمن سلسلة من الأخطاء ارتكبت منذ العام 1947 لدى صدور قرار التقسيم. ليس ما آل اليه الوضع في القطاع الذي وضعت تلك الحركة يدها عليه كلّيا في منتصف العام 2007 سوى نتيجة طبيعية لعدم استيعاب مبدأ أساسي في السياسة اسمه موازين القوى.
اضطرت «حماس» اخيرا الى اتخاذ إجراءات ذات طابع تقشفي شملت اغلاق محطة تلفزيونية فضائية تابعة لها كانت تبث من بيروت. ادّى ذلك، بين ما ادّى اليه، الى اغلاق المكتب التابع للمحطة في العاصمة اللبنانية. كذلك، أغلقت «حماس» محطة «الأقصى» التي كانت تبث من غزّة.
كلّ ما في الامر انّ «حماس» تعاني حاليا من شحّ في المساعدات الخارجية التي اتكلت عليها طويلا من اجل إبقاء مشروع «الامارة الإسلامية» في غزّة حيّا يرزق. لعبت ايران وغير ايران دورا في توفير مساعدات لـ»حماس» كي تلعب دور المعرقل لأي تسوية سياسية في وقت كانت هناك دائما قوى إسرائيلية تعمل من اجل اجهاض هذه التسوية.
اذا نظرنا الى الدور الذي لعبته «حماس» منذ قيامها، نجد انّها قدّمت كل الخدمات المطلوب تقديمها الى اليمين الإسرائيلي الذي بات حاليا واقعا لا مجال لتجاوزه. الدليل على ذلك، انّ المنافسة في الانتخابات الإسرائيلية المتوقعة في نيسان – ابريل المقبل هي بين اليمين واليمين. سيفوز في الانتخابات الحزب الأكثر تطرّفا بعدما استثمرت «حماس» والقوى التي دعمتها في العمليات الانتحارية في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993 ثمّ في فوضى السلاح في غزّة وصولا الى الصواريخ المضحكة – المبكية التي راحت تطلقها من غزّة بعد 2007. كان الهدف واضحا في كلّ وقت. تمثّل هذا الهدف في افشال المشروع الوطني الفلسطيني الذي كان يمكن ان يحقق بعض التقدم لو وجد ما يكفي من الوعي لدى السلطة الوطنية التي نشأت بعد اتفاق أوسلو ولدى الحركة الإسلامية التي تريد السلطة بايّ ثمن.
المؤسف انّ «حماس» خدمت كلّ إسرائيلي كان يقول ان لا فائدة من التفاوض مع الفلسطينيين وذلك خدمة للقوى العربية وغير العربية التي تؤمن باستمرار حال اللاحرب واللاسلام الى ما لا نهاية. سمح ذلك لإسرائيل بمتابعة سياسة الاستيطان في الضفّة الغربية والحؤول دون تمكن الفلسطينيين من بناء مؤسسات حديثة وشفّافة تصلح أساسا لدولة مستقلّة كان يمكن ان ترى النور في يوم من الايّام.
كانت نقطة التحوّل الكبيرة الانسحاب الإسرائيلي من غزّة صيف 2005. وقتذاك، لعبت السلطة الفلسطينية و»حماس» دورا سلبيا ادّى الى عجز عن الاستفادة من هذا الانسحاب الذي كان يفترض ان يكون بداية عملية تصبّ في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني. اكثر من ذلك، لعبت «حماس» مع السلطة الوطنية دورا في جعل تجربة الانسحاب من غزّة تخدم الهدف الإسرائيلي. كانت هناك شراكة بين رموز في السلطة الوطنية و»حماس» في تدمير البنية التحتية التي تركها الاحتلال الإسرائيلي بدل الاستفادة منها. احد المسؤولين في «فتح»، من أعضاء اللجنة المركزية في تلك المرحلة، كان يحفر الطرق لاستخراج البحص وبيعه…
بنت إسرائيل على الفشل الفلسطيني في غزّة، وهو فشل تتحمّل مسؤوليته «حماس» والسلطة الوطنية في رام الله، كي تؤكد صحة نظريتها القائلة ان لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه.
كان في الإمكان تحويل غزّة الى منطقة مزدهرة، خصوصا ان جهودا بذلها في حينه الامن الوقائي من اجل تأمين فتح معبر رفح مع مصر 24 ساعة على 24 ساعة. كذلك كان هناك تأمين لحرية الانتقال بين الضفة والقطاع. لعبت «حماس»، في ظلّ لامبالاة السلطة الوطنية، دورا في القضاء على تجربة واعدة كان يمكن ان توفر للعالم فرصة كي يتأكّد من ان الفلسطينيين شعب مسالم تعرّض لظلم شديد وانّ همّه محصور في الحصول على حقوقه الوطنية المشروعة.
انسحبت إسرائيل من غزّة كلّها في وقت كان ارييل شارون في موقع رئيس الوزراء. كان المحامي دوف فايسغلاس مديرا لمكتب شارون. ادلى فايسغلاس وقتذاك بحديث الى صحيفة «هآرتس» شرح فيه الأسباب التي دفعت الى اتخاذ قرار الانسحاب من غزّة. قال صراحة ان هدف إسرائيل من اخلاء القطاع هو الإمساك بطريقة افضل بالضفّة الغربية.
لم تمض سنتان، حتّى كانت «حماس» تستولي على غزّة متجاهلة الظروف التي أحاطت بالانسحاب الإسرائيلي والهدف منه. بدأت الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من حركة الاخوان المسلمين، اطلاق شعارات من نوع تحرير فلسطين كلّها. تحدثت عن انتصار على إسرائيل في وقت كانت اسرائيل تكرّس احتلالها للقدس وتبني مزيدا من المستوطنات في الضفّة الغربية.
منذ الانقلاب الذي نفّذته «حماس» قبل اثني عشر عاما، تغيّرت امور كثيرة. بين ما تغيّر الموقف الاميركي من القدس وارتفاع عدد المستوطنين في الضفّة الغربية الى نحو 800 الف مستوطن في اقلّ تقدير. بات المستوطنون يتحكمون بالسياسة الإسرائيلية والحكومات الإسرائيلية. بات الاحتلال هو القاعدة وبات هناك مجتمع دولي غير مبال بالقضيّة الفلسطينية. امّا على الصعيد العربي، فان كلّ ما يمكن قوله ان لا اهتمام يذكر بها في ظل تصاعد الخطر الايراني. فإسرائيل، على الرغم من توقيع معاهدتي سلام مع مصر والأردن لم تستطع اختراق المجتمعات العربية. لا يزال هناك رفض عربي للتطبيع بغض النظر عن ما قيل ويقال عن تغيير في المزاج الخليجي. في نهاية المطاف، لم يكن لبنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي ان يزور سلطنة عُمان لولا غطاء ضمني إيراني. تغطي ايران وجود نتانياهو في مسقط وتتاجر في الوقت ذاته بالقضية الفلسطينية والقدس بالذات!
ما لم يتغيّر هو رفض «حماس» لعملية القيام بعملية نقد للذات والاعتراف بانّها لعبت دورا في خدمة إسرائيل، خصوصا عندما تواطأت معها كي يتحول القطاع الى سجن كبير في الهواء الطلق. ما لم يتغيّر ايضا هو دور السلطة الوطنية الفلسطينية التي أصبحت تكتفي بدور التنسيق الأمني الذي لا مضمون سياسيا له مع إسرائيل…
الأخطر من ذلك كلّه، والذي يمكن وضعه في خانة ما لم يتغيّر، هو ذلك الرفض للاعتراف بموازين القوى القائم. مثل هذا الاعتراف كان سيؤمن الكثير للفلسطينيين. على سبيل المثال وليس الحصر، كان سيبقى معبر رفح مفتوحا. هل سأل قادة «حماس» نفسهم ولو مرّة واحدة لماذا يقف العالم مكتوفا امام الحصار الذي يتعرّض له القطاع ولماذا لا احد، بما في ذلك السلطة الوطنية، يكترث بمصير الغزاويين؟
اذا كان من انجاز حققته «حماس» في غزّة، فان هذا الإنجاز يتمثل في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني الذي كان يمتلك طاقات إنسانية جبّارة. ليس في غزّة حاليا، المتشّحة بالسواد، سوى مزيد من البؤس والفقر ولا شيء آخر غير ذلك. لا تستطيع «حماس» استيعاب انّ من لا يعترف بموازين القوى لا مكان له في هذا العالم. انّها بالفعل مأساة تسبب فيها الجهل وغياب المنطق ورفض التعلّم من تجارب الماضي قبل ايّ شيء آخر.