كان وزير الخارجيّة الأميركيّة ريكس تيلرسون يتحضَّر لجولة صعبة على بعض عواصم الشرق الأوسط، لكنّ ما حدث مع إسقاط الطائرة الحربيّة الإسرائيليّة زاد من تعقيدات الوضع وجعل زيارة تيلرسون أكثرَ صعوبة. صحيح أنّ الهدفَ الأساسي لجولة تيلرسون كان تركيا والسّعي لطمأنتها ومنع انزلاقها بعيداً من واشنطن، إلّا أنّ الحدث السوري سيفرض نفسَه بقوة على الجولة.
من المبكر بعض الشيء التطرّق الى كلّ الجوانب والخلفيات التي أحاطت بما حصل، لكن من الواضح أنّ بصمات العديد من الأطراف موجودة بوضوح. ذلك أنّ ثمّة اقتناعاً بأنّ الغارة الإسرائيلية وما تلاها جرى توقيتُها وفق ساعة تل أبيب لتسبق أو ربّما لتُمهّد لجولة تيلرسون التي ستُركّز في بعض جوانبها على تمدّد النفوذ الإيراني والشكوى الإسرائيلية من سعي طهران إلى إقامة قواعد جوّية وبحريّة لها في سوريا، إضافة الى جعل سوريا ولبنان مصنعاً ضخماً للصواريخ الإيرانية.
لكنّ إسرائيل لم تكن وحدها مَن اختار التوقيت، إذ إنّ إطلاق طائرة إيرانية من دون طيار في اتّجاه إسرائيل عبر الأردن قد يكون فخّاً وقع فيه الجيش الإسرائيلي بعدما تسرّع في الرّد لاعتقاده أنّ ما يحصل هو امتداد للمسار السابق. لكنّ بعض الديبلوماسيّين لا يُسلّمون بفرضيّة «الفخ»، ويضعون المسألة في إطار جسّ النبض وامتحان الموقف.
وجاء التقاطع الروسي – الإيراني – السوري ليقلب المعادلة ويُمهّد لوصول وزير الخارجية الأميركية وفق معطيات مختلفة.
فالجيش الروسي والذي كان نصَب أحدث شبكة دفاع جويّ في العالم (أس أس 400) قادر على مراقبة كامل الأجواء الإسرائيلية. ما يعني أنّ حركة الطائرات الإسرائيلية كانت تحت أنظار الرادارات الروسية التي يبدو أنّها نسّقت معلوماتها ومعطياتها مع دمشق.
وبمعنى أوضح، فإنّ الطائرة من دون طيار قد استدرجت عن قصد أو غير قصد الطائرات الحربية الإسرائيلية لاصطياد إحداها وتوجيه الرسالة القوية لواشنطن ومفادها: «لا يمكن السّماح بإسقاط طائرة حربية روسيّة من خلال السماح للمجموعات المسلّحة في إدلب بامتلاك أسلحة صاروخية مضادة للطائرات».
وكان لافتاً الموقف الذي أصدرته وزارة الدفاع الأميركية فور إسقاط طائرة الـ»أف 16»، بأنّ قواتها لم تشارك في العملية الإسرائيلية في سوريا، وهو نفي أقرب الى تأكيد التنسيق مع تلّ أبيب، أو على الأقلّ الموافقة على السلوك الإسرائيلي بهدف التّمهيد لجولة تيلرسون والتفاوض من موقع أقوى.
ففي سوريا، تبدو اللعبة مفتوحة والرسائل الحربيّة قائمة كل يوم. فمثلاً ومع الهجوم الذي نفّذه الجيش السوري مدعوماً من الإيرانيّين على مناطق في شرق سوريا حيث يوجد النفط والذي يطاول المجموعات الكردية، ردّ الجيش الأميركي بعنف على الجيش السوري من خلال غارات جوّية قاسية. والسّبب لم يكن فقط رسم خطوط حمر ميدانية، بل أيضاً حماية المجموعات الكردية التي تعاني أوضاعاً صعبة في هذه المنطقة.
ومع إسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية، تغيّرت قواعد اللعبة. فتنفيذ الغارات الجوّية لم يعد نزهة كما في السابق خصوصاً أنّ الجيش السوري بات يمتلك صواريخ أرض – جوّ فعالة مصدرها روسيا. وبدَت موسكو وكأنّها تُوجّه رسالة حازمة تذكّر بأنّها هي مَن يُمسك بمفاتيح اللعبة والحركة العسكرية، وأنّ إحراجها قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية سيعني تعديلاً في قواعد اللعبة في سوريا. طبعاً لا شكّ في أنّ التنسيق الروسي – الإسرائيلي قائم وهو قويّ جداً. لكنّ هذا شيء، والمصالح الروسية ضمن اللعبة الكبرى شيء آخر.
كذلك، فإنّ إيران التي تُعاني من ضغوط أميركية وإسرائيلية لتحجيم دورها في سوريا والتخفيف من تأثيره، أرادت القول إنّ السعيَ لذلك ليس بالأمر السهل.
وخلال الأشهر الماضية، نقلت الكواليس الديبلوماسية كلاماً عن وجود رغبة لدى الحكومة الإسرائيلية، اضافة إلى بعض الاطراف الدوليين، في توجيه ضربة محدودة أو ربّما حرب صغيرة ضد «حزب الله» في جنوب لبنان ولكن بشرط أن تكون سريعة ومحدودة جداً جغرافياً، وهو ما يسمح بردّ الاعتبار للجيش الإسرائيلي بعد حرب 2006، والتخفيف من حجم ونفوذ إيران و»حزب الله» وفرض قواعد مختلفة تَسمح بإنتاج تسوية سياسية في سوريا وفق المعطى الجديد.
لكن سرعان ما تمّ وضع الفكرة جانباً لإقتناع الجميع بإستحالة إبقاء المعارك محصورة، لا بل إنّ النار ستمتدّ فوراً الى كامل لبنان وسوريا، وأنّ الجيش الإسرائيلي الذي يُعاني من مشكلات عدّة ومن تراجعٍ في قدراته القتالية، سيغرق في وحول لبنان، وأيضاً وحول جنوب سوريا، وهو ما سيؤدّي الى نتائج عكسية ليس فقط في اتجاه توسيع الطريق أكثر من إيران الى لبنان، بل أيضاً في تهديد المناطق الشمالية لإسرئيل. كما أنّ الحرب ستؤدّي إلى وقف عمليات التلزيم الإسرائيلية للغاز من البحر.
وفي كلّ الأحوال، فإنّ في المشروع الإسرائيلي المطروح ببناء جدار عند الحدود مع لبنان تأكيداً بالملموس لعدم وجود مشاريع إسرائيلية للدخول البرّي الى لبنان. فالجدار مهمّته دفاعية وهو يعوق خطط الهجوم البرّي، مع وجود تسليم لدى معظم الخبراء العسكريّين بأنّ «حزب الله» بنسخته 2018 هو أقوى بكثير وأفضل بأشواط من نسخة 2006 التي لم يستطع الجيش الإسرائيلي هزيمتها.
في المحصّلة، بدَت إسرائيل مُربكة بعد إسقاط طائرتها، ولا شك في أنّ قواعد اللعبة تبدّلت، فما حصل يوم السبت الفائت سيؤدّي الى رَدع كلّ الأطراف عن الانجرار في سلوك متهوّر أو الاستمرار في انتهاج خطوات استفزازية، وهو ما دأبت الطائرات الإسرائيلية على القيام به طوال السنوات الماضية، ولو عبر الأجواء اللبنانية.
ولكن لبعض الديبلوماسيّين قراءة من جانب آخر. وحسب اعتقادهم فإنّ التصعيد حصل على خلفيّة الاستعجال في حَجز المقاعد والمواقع في التّسوية السياسية الجاري صوغُها في المحافل الدولية، ولا سيما في جنيف. إسرائيل تريد إنجاز تفاهمات ثابتة في جنوب سوريا قبل نجاح دمشق في السيطرة على إدلب، وبالتالي نقل تركيزها على درعا والقنيطرة، وإيران تُبدي قلقها وشكوكها من المسار الذي يُحيط بجنيف وبالمقاعد الممنوحة لها وبمساحة نفوذها.
ورغم أنّ جولة تيلرسون المنتظرة كانت ستتطرّق الى هذه النقاط، ولكن ليس كأولوية كون المحطة الأهم كانت في أنقرة والمهمة الأساس منح التطمينات لتركيا وتمسّك واشنطن بالمحافظة على دورها وعلى مصالحها الامنية، لكنّ التطورات الأخيرة ستُلزم وزير الخارجية الاميركية بفتح أوراق إضافية تتعلّق بالوضع السوري، حيث يسعى كلّ طرف للحصول على موقعٍ متقدّم.
وكان واضحاً لواشنطن أنّ التصعيد الذي حصل لم يكن أبداً بهدف الذهاب الى تفجيرٍ عسكري واسع، بل بهدف ترتيب الأوضاع بشكل أفضل، ولو على الساخن.
وبخلاف بعض الآراء بأنّ تأثير وزير الخارجية الأميركية على إدارة دونالد ترامب سيكون ضعيفاً في ظلّ الواقع الذي شهد علاقة صعبة بين تيلرسون والرئيس الأميركي، إلّا أنّ المعلومات الواردة من العاصمة الأميركية تُشير الى أنّ هذه الزيارة جرى التحضيرُ لها جيّداً، خصوصاً مع وزارة الدفاع الأميركية من خلال وزير الدفاع جيمس ماتيس، وبطبيعة الحال مع البيت الأبيض.
وتُشير هذه المعلومات إلى أنّ وضع تيلرسون وتأثيره داخل دائرة القرار الأميركي تبدّل إيجاباً خلال الأشهر القليلة الماضية، بحيث أنّ قرارَ دفعه الى الاستقالة لم يعد مطروحاً، أقلّه في المرحلة الراهنة، خصوصاً بعدما تمسّك ماتيس ببقاء تيلرسون، ومحذّراً من أنه قد يضطر الى الاستقالة هو بدوره في حال استقالة تيلرسون. ودفع موقف وزير الدفاع بالبيت الأبيض إلى إعادة النظر في العلاقة مع وزير الخارجية، نظراً الى اعتبار ماتيس الرجل الأساسي في إدارة ترامب، ومن الصعب الاستغناء عنه، على الأقلّ في المرحلة الحالية.
وكان قد تردّد في الأروقة الديبلوماسية الأميركية أنّ ترامب يُريد استبدال تيلرسون برئيس المخابرات مايك بومبيو (وليس السفيرة في الأمم المتحدة نيكي هايلي) على خلفيّة أدائه المتراجع، فيما الحقيقة أنّ بعض الشخصيات الأساسية في الحزب الجمهوري كانت تتداول في إمكان ترشيح الحزب لتيلرسون إلى موقع رئاسة الولايات المتحدة الاميركية. وهذا ما أدّى إلى تقييد حركة تيلرسون وتطويقه وإبعاده عن الملفات الخارجية، وأبرزها ملف التسوية مع إسرائيل.