مع تـسليم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بوجود خلل بين أرقامه وأرقام الحكومة، وقبوله بالخروج باتفاق حول أرقام موحدة للتفاوض بناء عليها مع صندوق النقد الدولي، يكون لبنان قد خطا خطوة جريئة نحو المعالجة. وبات يفترض أن يحمل الاسبوع المقبل موقفاً رسمياً يوحّد الأرقام لتسلك الامور مساراً مختلفاً من المفاوضات مع صندوق النقد، وإلا سنكون أمام عملية عرقلة جديدة من شأنها أن تقود إلى مزيد من الضعف بالموقف اللبناني. وليس مصدر التشكيك إلا من باب ما شهدته البلاد من هدر للوقت وتأخير في المعالجات نتيجة المكابرة.
قبل ما يزيد على سنة طالب وزير الاقتصاد والتجارة السابق منصور بطيش “بالمساءلة واعتماد الشفافيّة بموضوع الفجوة الماليّة الكبيرة بالعملات الأجنبيّة في حسابات مصرف لبنان، والناتجة عن الهندسات المالية والفوائد المرتفعة لا سيّما بالدولار، والعجز في الميزان التجاري”.
كان مفاجئاً ان يقول وزير في الحكومة مثل هذا الكلام وبدل ان يسلك مساره الى التدقيق في حينه، صار أسير لعبة الحسابات السياسية. بعدها بعام، طلب الإستشاري الدولي لازارد، المكلّف رسميّاً من الحكومة بالتفاوض مع حاملي اليوروبوندز، بإجراء تدقيق مالي مُرَكَّز على حِسابات مصرف لبنان نتيجة ظهور فجوة مالية بقيمة 50 مليار دولار من أموال الناس، الذين أودَعوها في المصارف التي بدورِها أودَعت معظمها في مصرف لبنان. هنا وقع الخلاف بين المصرف المركزي والحكومة، كانت نتيجته اتهام رئيس الحكومة لسلامة بعدم التعاون بموضوع صحَّة الأرقام التي يُفتَرَض أن ترتكز عليها خطّة الحكومة للتعافي المالي. الى ان استعان لبنان بصندوق النقد الذي أكد وجود أخطاء في حسابات البنك المركزي وعلى حجم الخسائر الكبيرة الناتج مُعظمها عن ذلك والتي قَدَّرها بأكثر من 100 مليار دولار بسعر القَطع الرَسمي المُعتمَد حاليّاً، وهو الرقم الذي يزيد قليلاً عن تقديرات الحكومة.
أظهرت المفاوضات مع صندوق النقد وجود اختلاف في الارقام بين الحكومة والمصرف المركزي، كان سبباً في تعطيل المفاوضات الدولية لولا استدراك لبنان هذا اللغط بخطوة تسجّل لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والتي تمثلت في الدعوة الى الاجتماع المالي الذي عقد أمس في بعبدا، هدفه كشف الخلل الكامن في الفوارق بين حسابات الحكومة والمصرف المركزي، والتي كانت سبباً اساسياً في تجميد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. كان من الضروري اجراء تلك الجلسة التي تجمع كلا الطرفين أي رئيس الحكومة ووزير المال مع حاكم مصرف لبنان، وبينهما شارك خبراء اقتصاديون.
أظهرت مداولات أصحاب الشأن ان لبنان ذهب الى صندوق النقد مكرهاً بعد استنفاد سبل الحل، ما ينشده لبنان من مساعدة صندوق النقد هو عنصر واحد واساسي، استعادة الثقة من اجل مخاطبة العالم وطلب المساعدة. المفيد في الاجتماع المالي ان خلاصته كانت بتسليم رياض سلامة بوجود فرق بين أرقامه وأرقام الحكومة التي تتوافق تقريباً وارقام صندوق النقد. من خلال مداخلاته القليلة في الاجتماع أظهر سلامة خوفاً من اجراءات صندوق النقد التي من شأنها ان تنعكس سلباً على القطاع المصرفي، وهو رفض تحمل خسائر الدولة بينما كانت وجهات نظر المجتمعين تؤكد على توحيد الارقام المالية اولاً ثم توزيع الخسائر لاحقاً.
خلال الاجتماع، كشف وزير المال ان التباين بين ورقتي الحكومة والمصرف المركزي مرده الى أسباب ثلاثة، من بينها ان المصرف المركزي يريد معالجة تدريجية للخسائر، ولذا تجنّب وضع الارقام كما هي بينما الحكومة تريد معالجة كلية. وهو ما فسر على أنه محاولة من وزير المال لتدوير الزوايا بين الطرفين، والارقام من ناحية نسبة ما يتحمله مصرف لبنان من إعادة الهيكلة ومن يتحمل التكلفة للخسائر، لان مصرف لبنان لا يريد تحمل خسارة الدولة التي أسرفت في الانفاق، فالمصرف مسؤول عن التساهل مع الدولة واقراضها، والمصارف مسؤولة عن ايداع اموال الناس لدى مصرف لبنان طمعاً بالفوائد، والمودعون يتحملون جزءاً كذلك نتيجة ايداع اموالهم طمعاً بالفوائد المرتفعة. ومن الفروقات أيضاً خسائر الدين المسجلة في ورقة الحكومة وليست مقيدة في ورقة المركزي.
كان الهدف الاتفاق على الارقام وعدم اظهار مصرف لبنان مهزوماً لما يمثله على مستوى موقع لبنان الاقتصادي والمالي.
توزيع الخسائر
سلم المجتمعون أن التمسك بأرقام غير دقيقة من شأنه ان يصعب المفاوضات مع صندوق النقد، ولا بد من ردم هذا التباين الشاسع بين ارقام الحكومة والمصرف المركزي لاصرار الصندوق على وجود أرقام واضحة ليبني على اساسها. ذلك أن قيمة المفاوضات مع صندوق النقد هي في عامل الثقة التي من شأنها اذا ما توافرت ان تعيد فتح أبواب لبنان امام “سيدر” والمساعدات الدولية والعربية. خلال الاجتماع استفسر الرئيس عون عمن يتحمل خسارة مصرف لبنان؟ وهل استقلاليته تعني ان كل طرف يتحمل خسارته بنفسه، فيجيب وزني بضرورة توزيع الخسائر. بحث مستفيض حول المسؤوليات انتهى بتسليم الجميع بضرورة الاعتراف بالخسائر لكونها “مكتوبة بالحبر وليس برصاص”، على حد تعبير رئيس البلاد.
وفي مداخلة، أكد مديرعام المالية آلان بيفاني ان حجم الازمة حتّم الاستعانة بصندوق النقد، وحتى لو انطلق الصندوق من ارقامه فالمهم هو توافر اجماع لبناني على الارقام لخوض المفاوضات كفريق واحد، خصوصاً وان اقتراحات الصندوق قد تصب في خانة الهيركات. يقترح بيفاني عدم تحميل المصارف او المودعين العبء، وانما يجب ايجاد حل متكامل بين المصارف والمصرف المركزي والحكومة. لذا تأتي موافقة حاكم مصرف لبنان على صحة ارقام صندوق النقد الأقرب الى ارقام الحكومة بمثابة باب لتسهيل المفاوضات، وقد تم الاتفاق على اعلان الارقام الموحدة قريباً في الاعلام، خصوصا وان سلامة طلب مهلة لتصحيح الخلل في الارقام واجراء مفاوضات مع صندوق النقد. بعدها سيصبح بالإمكان القول إن الاسبوع المقبل سيحمل موقفاً رسمياً لبنانياً موحداً حول الارقام، كما يعني اعلان الارقام ان لبنان سيكون ملزماً بكشف ارقامه وحساباته لصندوق النقد، الذي سوف يطلب التزامات معينة أو ربما سيتدخل في رسم السياسة النقدية بطريقة التعاطي التي ستتم مع مصرف لبنان، فهل سيكمل المسار ام سنكون امام مفاجآت من شأنها وقف مسار المفاوضات؟