IMLebanon

إلى أين المصير… وأين دماء الشهداء؟

 

شاءت الصدف ان يتصل بي في اسبوع واحد رجل دين مسلم وآخر مسيحي يسألان السؤال نفسه: كيف نستطيع تأمين الموارد باستمرار، لإعالة الآلاف من الأيتام والمعوزين والمعوقين والمقعدين؟ هنا يتيقن سقوط الأمن الاجتماعي.

 

أمس، سقط شهيدان للأمن الداخلي في مخفر الاوزاعي. الاسبوع الفائت سقط ثلاثة شهداء للجيش في الهرمل. هنا يبدأ التيقن، انّ الأمن معرّض للاهتزاز في هذه الدولة الفاشلة، بعدما سقطت هيبة القضاء ولم يعد المواطن يثق بالعدالة.

 

يقف المواطنون يومياً بإذلال امام المصارف للحصول على حفنة من اموالهم، وهم لم يتصوروا يوماً ان يتبخّر جنى عمرهم. يعيش هؤلاء المواطنون في كنف دولة يديرها فريق سياسي، بعضه تعجز معاجم اللغة العربية عن ايجاد وصف لهم.

 

أليس هو فساد وإجرام وإساءة أمانة المودعين، وانهيار بنية القطاع المصرفي في رأسماله واحتياطاته، والذي كان العمود الفقري للاستقرار المالي والنقدي والامن الاجتماعي؟

 

أليس فساداً واجراماً ان تُفرغ الخزينة اللبنانية وأن تُمدّ اليد الى اموال الضمان الاجتماعي الذي يمثل الصمام الاساس لمئات الآلاف من العائلات، اضافة الى ما يفوق الـ 350 مليار دولار (دخلت الى الخزينة وخرجت) أُنفقت هدراً وسرقة على الحد الادنى من البنية التحتية؟

 

واخيراً، أليس فساداً واجراماً انّه اصبح اكثر من نصف الشعب بدون عمل، وأُغلقت مصانع ومتاجر وفنادق ومزارع، اي تمّ إضعاف البنية الاساسية للقطاعات الانتاجية التي تمثل الركائز الاساسية للاقتصاد؟

 

انّ الركائز الاساسية لأي دولة، من ودائع ومصارف وخزينة واقتصاد، لم تعد موجودة في لبنان. في هذا الواقع المأسوي نتساءل: «هل سالت دماء الشهداء منذ 1943 لكي نصل الى هذا الحدّ من الإذلال والإفقار»؟. ويتساءل مغتربو لبنان من أميركا الى اوستراليا وافريقيا واوروبا والخليج والشرق والغرب: «أهكذا نُخدع بعدما غلب علينا حماسنا لبلدنا، ووثقنا في انّ اموالنا لن يُساء امانتها، الى ان ضاعت وضاع جنى العمر؟».

 

ما هي الحلول، وما حظوظ تنفيذها؟

 

اصبح لبنان في موت سريري، يعيش على ماكينات الإنعاش الاصطناعي، والتوصيف الأدق، هو انّ لبنان كالهاتف المعطوب الذي لا يمكن شحنه لأنّ اجهزة الشحن تعطلت نهائياً. لم يعد من حلّ إلّا بتغيير الهاتف وبرمجته برمجة حديثة.

 

يحتاج القطاع المصرفي الى إعادة رسملة من الصفر، كما يجب دمج غالبية المصارف اللبنانية في مصارف كبيرة، بعد وضع الاصول المشكوك فيها في «سلة السموم» toxic basket، وإنشاء قطاع مصرفي جديد ونظيف، مع رأسمال صلب لا يقلّ عن 25 مليار دولار، اضافة الى تحويل جزء من الودائع الى اسهم تحويلية. المصارف المندمجة الجديدة mega banks تستطيع حينها تمويل إعادة نشاط مختلف القطاعات الانتاجية التي ستحتاج الى عشرات المليارات من الدولارات لتعود الى التنافسية في الانتاج، وتأمين فرص عمل جديدة، تضخّ ديناميكية جديدة في الاقتصاد اللبناني يحتاجها كضرورة قصوى.

 

فقط عند تأمين إعادة رسملة المصارف ودمجها، والمبالغ الرأسمالية المطلوبة لإعادة الحياة الاقتصادية وخلق فرص العمل، يمكن لإيرادات الدولة ان تعود للحياة. فاليوم هذه الموارد شبه معدومة وقد تصل الى 20% من نسبتها المتوقعة. فالاستيراد انخفض جذرياً، كذلك التحويلات من الخارج، وهزلت القدرة الشرائية.

 

في حال تحققت العوامل الثلاثة اعلاه، عندها يتمّ إعادة هيكلة الدين لتحقيق فائض في الموازنة بعد إلغاء دعم كل القطاعات الفاشلة واولها الكهرباء.

 

ببساطة، انّ الرأسمال جبان، والثقة التي تبنيها في سنوات ثم تخسرها، ستحتاج الى سنوات لإعادة اكتسابها. الثقة في النظام السياسي مفقودة منذ سنوات. والثقة في الاستثمار كانت هشة، آخذة في الاعتبار مشاركة رموز الفساد كمشاركين مضادين في اي عملية استثمارية رابحة. واخيراً تدمرّت الثقة في القطاع المصرفي، الذي لم يتصور احد انّ هذا القطاع سينتهي الى ما انتهى عليه.

 

عودة الثقة تحتاج الى عوامل عدة تتجسّد في دولة جديدة مدنية، فيها قضاء يختلف عن الحالي، وضمانات نظام مصرفي واستثماري غير الحالي ايضاً. من غير ذلك، وبعدما تبخرّت المليارات من اموال المغتربين والمقيمين وبعض العرب، لن تدخل ودائع او تحويلات جديدة الى لبنان، ناهيك عن استثمارات جديدة في القطاعات الانتاجية.

 

كل الحلول التي طُرحت سابقاً لا تجدي اذا اتت متأخّرة. فسلسلة الحلول باتت معكوسة، تبدأ بإعادة رسملة المصارف ثم القطاعات الانتاجية ثم إعادة هيكلة الدين، ثم معالجة الموازنة العامة، ولن يفيد عكس هذه السلسلة.

 

لن يفيد بعد الآن خفض الفوائد على الودائع وديون الدولة من دون اعادة الرساميل المذكورة. ازمة لبنان الرئيسية اليوم هي إفراغه من دولارات فعلية وليست قيوداً دفترية، وهذه تتمثل بدخول رساميل جديدة من الخارج. يمكن التلاعب دفترياً، ولكن لا يمكن خلق رساميل فعلية وهمية.

 

اذاً، تبدأ الحلول وتنتهي بالسياسة. لا يجوز لأحد بعد الآن المطالبة بحلول تقنية.

 

المطلوب ولادة لبنان جديد بدولة جديدة، بإدارة تختلف جذرياً عن الادارة الحالية. من يقول «انّ هذا مستحيل وستسيل دماء»، يردّ عليه انّ لبنان لن ينهض اذن، وسيبقى يعيش مأساته في انتظار إعادة رسم المنطقة مجدداً بين القطبين الاميركي والروسي، وما يُرسم له والدول الاخرى من استعادة لموارده من الغاز والنفط. وسينتظر اللبنانيون معرفة مصير بلدهم ان كان سيكون ضمن النفوذ الروسي، امتداداً للنفوذ في سوريا، ام سيبقى طمعاً للمحور الغربي، والمناكفة فيه بين هذا المحور والمحور الشرقي.

 

مهما غال المغالون، وكابر المكابرون، بات لبنان خاصرة ضعيفة والحلقة الاضعف بين دول المنطقة. يأمل كثيرون ان يكون النفط والغاز غطاء لكل فسادهم، ويطمعون بالمزيد، لكن يفوتهم انّ النفط والغاز ومواردهما لن يكون قرارها لبنانياً. والى حينه، هل يتخلّص لبنان من بعض «نازيي» السياسة والجشع؟