الهندسات المالية تدفع المصارف إلى التنافس بجنون وإغراء الزبائن بفوائد مرتفعة بهدف جذب الودائع وتوظيفها في هذه الهندسات للاستفادة من عائداتها الطائلة. هذا الأمر ثابت في محضر الاجتماع الاستثنائي الذي عقده مجلس إدارة جمعية المصارف أول من أمس والذي شجّع الفوائد المرتفعة، لكنه حصرها بالودائع التي تفوق 5 ملايين دولار، أو التي يزيد أجل استحقاقها على ثلاث سنوات
عقد مجلس إدارة جمعية المصارف، أول من أمس، اجتماعاً استثنائياً خصصه للبحث في ارتفاع أسعار الفوائد على الودائع بالليرة والدولار. مداولات الاجتماع أظهرت أن المشكلة تكمن في الهندسات المالية الأخيرة («الأخبار»، 9 تموز 2019) التي فتحت جشع المصارف على مصراعيه، حتى باتت تتنافس بشراسة على جذب الودائع لتوظيفها في الهندسات المالية والاستفادة من الإيرادات السخية التي منحها مصرف لبنان للمصارف بموجب تعميمه الأخير («الأخبار»، 3 تموز 2019) الذي يتيح لهم تسجيل عائدات التوظيفات أرباحاً فورية بدلاً من تسجيلها سنة بسنة.
يكشف التعميم رقم 289 الموجّه من الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر، إلى مديري المصارف، أن مجلس إدارة الجمعية دُعي إلى اجتماع استثنائي يوم الأربعاء الماضي لمناقشة موضوع فوائد الليرة والدولار في سوق بيروت. ويشير التعميم إلى أنه تبيّن أن «منحى كلفة الودائع إلى تزايد غير مبرر، فالسيولة جيدة وتعكسها معدلات الإنتربنك المنخفضة»، إلا أن مجلس إدارة الجمعية يخشى من تداعيات استمرار «المنحى التصاعدي لكلفة الودائع ليس فقط أن تتراجع الربحية، وأن يسجّل القطاع خسائر، بل إن ذلك ينعكس سلباً على كلفة تمويل الاقتصاد».
ولاحظ مجلس إدارة الجمعية أن «عدداً قليلاً من المصارف غير الملتزمة يعرّض القطاع بأكمله لمخاطر، البلد بغنى عنها»، متمنياً على المصارف «الالتزام تفادياً لإجراءات قد يعتمدها»، موصياً المصارف بالآتي:
– الاستمرار في التزام السقوف المتفق عليها، 12% على الليرة و8% على الدولار كحدود قصوى، مع ضرورة خفضها ما أمكن للتحكم بالكلفة مستقبلاً.
– التزام عدم قبول ودائع مسحوبة من مصارف أخرى، تفادياً لارتفاع غير مبرر في بنية الفوائد.
– عدم السماح للودائع المسحوبة من المصارف المحليّة بالاستفادة من المنتجات المالية المعروضة في السوق.
– تبقى خارج اتفاق السقوف، المنتجات المالية ذات المبالغ الكبيرة (خمسة ملايين دولار وما فوق) وذات الآجال الطويلة (ثلاث سنوات أو أكثر) والآتية من الخارج.
التوصية الأخيرة لمجلس إدارة جمعية المصارف مثيرة للارتياب. فهي من جهة تشجّع المصارف على إبقاء الفوائد مرتفعة للاستفادة من الهندسات، ومن جهة ثانية تحمي المصارف الكبيرة من المنافسة التي تتعرض لها من المصارف المتوسطة والصغيرة. هذا الأمر تكشفه وقائع السوق المتصلة بالهندسات المالية الأخيرة التي ينفذها مصرف لبنان مع المصارف. فقد انطلقت هذه الهندسات بالتزامن مع منتجات مصرفية أصدرها أحد أكبر المصارف في لبنان، عارضاً على الزبائن إغراءات لم تشهدها السوق المحلية خلال العقدين الأخيرين («الأخبار»، 29 حزيران 2019). عرض المصرف تضمن الحصول على ودائع بقيمة 20 مليون دولار كحدّ أدنى مقابل فائدة سنوية تصل إلى 14.3% سنوياً وهي محتسبة على أساس أربع دفعات من أصلها 10% تدفع مباشرة عند تسلُّم الوديعة في حساب غير خاضع لضريبة الفوائد، والباقي يتوزّع 10% سنوياً على ثلاث سنوات.
المصارف تستشرس على جذب الودائع وترفع أسعار الفائدة
ضربة البداية هذه تبعتها منتجات مصرفية مماثلة من مصارف أخرى، إلا أنه في الأيام الأخيرة ظهرت منتجات من مصارف متوسطة وصغيرة تغري الزبائن بفوائد أعلى على ودائع حدّها الأدنى مليون دولار مقابل تسديد 12% مباشرة عند استلام الوديعة، أي أن الفائدة السنوية تفوق 15%.
واللافت أن مجلس إدارة الجمعية يحاول الظهور بمظهر المحافظ على بنية الودائع في السوق والحامي لتمويل الاقتصاد، فيما هو يهدّد المصارف بإجراءات قد يعتمدها لكبح جماح المنافسة التي تتعرض لها المصارف الكبيرة من المصارف الصغيرة والمتوسطة.
كذلك، يحاول المجلس أن يشير إلى ارتفاع «غير مبرر» في بنية الفوائد، فيما الوقائع الثابتة تشير إلى أن ارتفاع بنية الفوائد ناجم عن عجز ميزان المدفوعات بالدرجة الأولى، إذ إنه يشير بما لا لبس فيه إلى أن الرساميل التي تهرب من لبنان أكبر بكثير من تلك التي تدخل إليه (10 مليارات دولار خلال 12 شهراً)، أي بمعنى آخر هناك هروب للودائع من القطاع المصرفي، ولا يمكن تعويضه إلا عبر رفع أسعار الفوائد.
وهناك إشارة واضحة في تعميم الأمانة العامة لجمعية المصارف عن «الغشّ» الذي مارسته المصارف في السابق للاستفادة من الهندسات المالية مع مصرف لبنان. فالتوصية الثالثة تشير إلى أنّ من غير المسموح توظيف الأموال المسحوبة من المصارف المحلية في المنتجات المعروضة في السوق، أي المنتجات بالفائدة المرتفعة التي توظفها المصارف في الهندسات المالية مع مصرف لبنان. ففي الهندسات السابقة، تبيّن أن هناك الكثير من المبالغ المودعة في المصارف، وهي عبارة عن ودائع منقولة من مصرف إلى آخر، وبعضها كان ينقل إلى الخارج ثم يُحوَّل مجدداً إلى مصرف محلي آخر من أجل الاستفادة من الهندسات.
أما التوصية الثانية، فهي تتعلق بمنع الزبائن من التفاوض مع المصارف من أجل الحصول على فوائد أعلى على ودائعهم بذريعة عدم حصول ارتفاع غير مبرر في بنية الفوائد. ففي الفترة السابقة كان بعض الزبائن يتفاوض مع المصارف من أجل الحصول على فوائد أعلى، وكانت المصارف تتجاوب مع زبائنها للحفاظ على ودائعهم لديها.
ودائع غير كافية
تقول مصادر مصرفية إنه فور إطلاق المنتجات الجديدة التي تمنح المودعين إيرادات فورية، وإيرادات إجمالية من الفائدة السنوية البالغة 14.3%، تمكنت المصارف من جمع مبلغ يفوق 1.8 مليار دولار بدأت توظفه لدى مصرف لبنان تباعاً. وبحسب المصارف، فإنه ــ عملياً ــ لا يكفي هذا المبلغ لإعادة تكوين احتياطات مصرف لبنان بالشكل المناسب، إذ إن مجموع احتياطاته بالعملات الأجنبية تدنّى إلى 29 مليار دولار، فيما هناك استحقاقات قريبة على الدولة اللبنانية بالدولار تزيد على ملياري دولار. ويفترض بمصرف لبنان أن يسدّد قيمة هذه السندات وفوائدها عن وزارة المال، تماماً كما فعل في السندات التي استحقت في وقت سابق من هذه السنة، إذ تبيّن أنه لا يمكن إتمام إصدار ناجح لسندات جديدة بالدولار لتغطية السندات المستحقة وفوائدها بسبب عدم وجود شهية خارجية وانعدام قدرة مصرف لبنان على تحرير مبالغ بالدولار للمصارف، بما يسمح لها شراء السندات الجديدة.