استناداً إلى خبرة أجدادنا وبعملة وهمية
تحت شعار “منكمل بعض أينما كنا”، وبهدف مواجهة التدهور الإقتصادي والتضخم والفقر وارتفاع الأسعار، وضعف السيولة، أطلق النادي الثقافي (سفينة اورفليس) سوق المقايضة في بشري نهاية الشهر الماضي، مبادرة شبابية متواضعة حصدت أجواءً إيجابية ومشجعة، وهي اليوم تتهيأ لإستقبال اللبنانيين الراغبين بـ “المقايضة” من المناطق كافة الربيع المقبل، فيما لا يزال العديد من اللبنانيين يقعون فريسة مبدأ مقايضة “أموالهم” بشقق وعقارات، الذي تقترحه عليهم بعض البنوك مستغلةً ذعر المودعين من إنهيار أكبر في سعر الصرف، مبتعدةً بذلك عن المبادئ الحقيقية للمقايضة التي لطالما اشتهرت بها.
قبل دخولك إلى “سوق المقايضة” في التاسعة صباحاً، وعلى بعد أمتار من مكتبة جبران خليل جبران، عليك أن تستحصل على ورقة تحمل جدولاً لتسهيل عملية المقايضة، ويتم التسعير بالعملة الوهمية “وحدة وطن “، وكل مواطن يُسعر ما لديه من منتج بلدي أو خدمات بهذه العملة؛ وتتضمن آليات المقايضة مع غيرك من المشاركين، وصولاً الى تحقيق نتيجة صفر وحدة وطن، عند إغلاق السوق أبوابه عند الساعة السادسة مساءً.
عملة بديلة وفعالة
هذه العملة ابتكرتها مجموعة شبابية، تعمل تحت رعاية “لجنة جبران الوطنية” و”جمعية فرصة الحياة” ويشرح أمين سر النادي ستيف طوق: “بحثنا عن فكرة جديدة، بعدما وجدنا أن الوضع الاقتصادي يتدهور بشكل سريع، ورفضاً لسياسة التفقير المتعمدة واحتكار المصارف لأرزاقنا وأموالنا، ولأن ثروة بلادنا لنا وليست حصراً لأحد، من هنا أتت فكرة سوق المقايضة حيث نتعامل بطريقة سهلة وسلسة، ومن دون استعمال المال، وهكذا يتجنب المواطن المرور عبر “منظومة المال” التي تفرض على المواطن حزمة من الضرائب والارباح، بغية عودة الحياة والقيمة الفعلية لدورتنا الاقتصادية”.
بدورها تؤكد مُنسقة السوق ألين طوق أن المبادرة تركز على تحفيز الناس على اكتشاف قيم الاشياء التي لديهم، اعتمدنا على الإكتفاء الذاتي، عبر مبدأ المقايضة، وهذا ما يعزز الروابط الاجتماعية بين أبناء بشري في المرحلة الأولى وبين أبنائها وأبناء المناطق اللبنانية كافة من البقاع والجنوب وجبل لبنان وبالطبع الشمال، في أوائل فصل الربيع المقبل في المرحلة الثانية، وهكذا يستعيد مجتمعنا عدالته الإجتماعية وعافيته وقوته ويتصدى للأزمات الموجودة، بعد أن باشرنا التحضيرات كي يصبح السوق موسمياً.
شروط للمقايضة
أما شروط المقايضة فتتنوع بين صناعة وطنية، خدمات فردية، منتوجات زراعية، وأغراض مستعملة، وتأتي التحضيرات للمراحل المقبلة بعد أن لمس القيمون على السوق إقبالاً كبيراً وأجواءً مميزة، وعلى الرغم من استغراب بعض الزوار بادئ الأمر للفكرة، لكنهم ما لبثوا أن أعربوا عن سعادتهم، لشعور معظم المشاركين بأهمية إنتاجه أو خدماته، حتى أنه لم يخرج أحد إلا ويحمل منتجاً من المنتجات المنزلية المعروضة تطبيقاً لمبدأ الاخذ والعطاء، ومن بينهم من اتفق مع ستيف على أخذ دروس خصوصية في الـ”سكي” التي يقوم بالتدريب عليها، أو في اللغة العربية مع إحدى معلمات اللغة العربية.
وبالطبع يتضمن السوق الأغراض التي لم يعد الزائر بحاجة إليها كالثياب والكتب، والتي قد يكون زائر آخر بحاجة إليها، حتى تحول السوق إلى فرصة لأهالي بشري لتأمين جزء من إحتياجاتهم اليومية من طعام أو ثياب أو خدمات، وذلك من دون المرور عبر النظام النقدي، بل على أساس العملة الوهمية المذكورة والتي تساوي سعر ربطة الخبز، وهذا النظام يسمح بحرية تبادل أكثر بين الزوار، إذ لم تنحصر المقايضة بين شخصين بشكل مباشر، فمثلا يمكن لشخص بيع منتج مقابل 20 “وحدة وطن” لشخص ما، ثم شراء منتجات أخرى أو خدمات أخرى من شخص آخر مقابل 10 وحدات لكل منها، وفق منسقة السوق.
لاستعادة قيمة الإنسان والأرض
بابتسامة توحي برؤية تفاؤلية يعلق الطبيب يوسف حنا طوق مدير مستشفى بشري الحكومي سابقاً والذي عرض المعاينة مقابل وحدة وطن واحدة: “نلاحظ أن الخدمات أصبحت مكلفة في مجتمعنا، أكانت الطبيب أو المحامي، أو المهندس أو غيرهم، والطبيب يحتاج للمزارع أكثر من حاجته اليه، لقد سعرت خدمتي في السوق بـ “وحدة وطن” واحدة، لأن المواطن يستطيع أن يعيش من دوني، لكن لا يمكنني أن أعيش من دونه”.
ولا يغيب عن بال طوق كيف أبدع شاب من العارضين في إيجاد حل لمشكلة مقايضة شاهدها بأم العين، بعد أن طلبت منه زائرة 10 كيلو بطاطا، وأبلغته أنها ستدفع ثمنها بحسب تسعيرتها بوحدة الوطن، فالتفت إلى معروضاته ليكتشف حينها أنه لم يأت بالبطاطا معه، لكن تذكر أين وضعها والده في المنزل، فما كان منه إلا أن طلب منها أن تجري “فتلة” صغيرة لمدة 15 دقيقة، وعند عودتها سيقوم ببيعها ما طلبته منه، وهكذا كان.
ويشدد ستيف على أن هذا هو المستقبل “لقد استندنا إلى خبرة أجدادنا الفينيقيين قبل 4 آلاف سنة كل ذلك كي نستعيد قيمة الانسان وقيمة الأرض، بعدما تحول إلى سلعة في عصرنا عصر التكنولوجيا والعولمة والسرعة، واليوم نسأل لماذا كل هذا الهدر والفساد الحاصل ؟ لافتاً إلى أن إختيار إسم “سفينة اورفليس” لهذه المجموعة من المتطوعين جاء نسبة لمدينة اورفليس التي عاش فيها “المصطفى” في كتاب “النبي” لجبران خليل جبران بحيث يرمز هذا الإسم إلى الحرية، والمعرفة، والإنفتاح، ومن هنا لنا الحق أن نسأل:”لماذا كل هذا الإجحاف بحق المواطن؟”.
المقايضة في الجزائر
قد لا تُصدِّق أن تجارة المقايضة، التي كانت سائدة قديماً، قبل سك النقود وبدء التداول بها، لا تزال تنشط في الجزائر. يجري ذلك في جنوب البلاد، على الحدود مع مالي والنيجر، وشرقها، على الحدود مع ليبيا، حيث لا يستخدم التجار المحليون هناك العملات، سواء المحلية أو الأجنبية. ويقايض تجار الجزائر، الملح الصلب المخصص للإبل والماعز، بفواكه الأناناس والمانغا وجوز الهند، خصوصا بينهم وبين تجار النيجر. ومكّنت هذه التجارة تجّار الجنوب الكبير للجزائر من تسويق عدة منتجات أخرى، منها 3 أنواع من التمور الصلبة التي تُستهلك على نطاق واسع في منطقة دول الساحل.
المقايضة في الأرجنتين
في ايلول 2018 أصبح التسوق معضلة يومية للأرجنتينيين المتواضعي الحال، بعد تضاعف سعر الدقيق في أقل من عام وارتفاع سعر البيض بنسبة 50% ما دفعهم الى إنشاء سوق المقايضة واعتماد استراتيجيات منها: «المقايضة والشراء بالجملة لمواجهة التضخم الجامح»، ويقوم الارجنتينيون بالتحقق من الاسعار في أماكن مختلفة لإيجاد افضل الاسعار. وبحسب المعهد الوطني الارجنتيني للإحصاءات، فقد بلغ التضخم منذ كانون الثاني نحو 24,3% على أن يتجاوز الـ 30 % مع نهاية أيلول، كما أسهمت شبكات التواصل الإجتماعي في تسهيل التواصل بين المقايضين.