خلال العام الأول لتسلمه منصبه رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي، ألقى غابي أشكنازي كلمة مطولة أمام معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب فصّل فيها رؤيته لمستقبل الجيش على صعيد البنية والوظيفة.
كان ذلك في خضم حالة الإنكسار التي ألمت بإسرائيل جيشاً ومجتمعاً عقب حرب تموز 2006، مما استدعى أن تتمحور مهمة أشكنازي حول إعادة ترميم الجيش واستعادة ثقة الجمهور به. استعار رئيس الأركان في حينه (12/11/2007) مقولة المنظّر العسكري الألماني الشهير، كارل فون كلاوزفيتش، ليوصّف ما ينبغي أن يكونه الجيش الإسرائيلي كأحد أبرز العبر التي جرى استخلاصها من الحرب: «على الجيش أن يكون دائماً في أحد وضعين: إما في حالة حرب وإما يستعد لها».
جَهِد أشكنازي لترجمة رؤيته من خلال مشاريع تجهيز وتدريب قيل إن الجيش الإسرائيلي لم يشهدها منذ سبعينات القرن الماضي، أي منذ صدمة «حرب يوم الغفران»، وهي مشاريع لا تزال قائمة في الجزء الأكبر من زخمها حتى اليوم. بيد أن أشكنازي، ومن ورائه قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أدركوا سريعاً أن الثنائية التي تنطوي عليها مقولة كلاوزفيتش لوضعية الجيش (إما الحرب أو الاستعداد لها) غير كافية لتأمين الرد المناسب لنوع محدد من التهديدات المحدقة بإسرائيل، وهو «تعاظم» قوة أعدائها خلال فترة «ما بين الحروب». وما زاد هذا الإدراك حدّة هو وقائع الحرب التي كانت إسرائيل قد خرجت منها للتو، وخبرت فيها ما لم تكن تتوقعه من مفاجآت أعدتها لها المقاومة في لبنان. بعبارة أخرى، اكتشفت إسرائيل ما بعد الحرب أن المقاومة كانت قد سبقتها بسنوات في تبني مقولة كلاوزفيتش، وأنها، منذ انتهت وضعية القتال عندها إلى تحرير عام 2000، دخلت من دون تلكؤ في وضعية الاستعداد للحرب المقبلة، فأطلقت مسارات محمومة على درب «تعاظم القوة» وأذاقت إسرائيل بعض بأسها في صيف 2006.
ما بعد الحرب، لم تكن تل أبيب في حاجة إلى جهد استخباري استثنائي لتستنتج أن المقاومة ستعيد إطلاق مسارات بناء القوة الخاصة بها بوتيرة أكثر سرعةً وأوسع حجماً وأحدث نوعاً. بل إن الاستحقاق الذي وجدت إسرائيل نفسها أمامه هو عزم المقاومة المعلن على حيازة قدرات تسليحية استراتيجية من النوع الذي أطلقت عليه تل أبيب عبارة «أسلحة كاسرة للتوازن». وفي ضوء إقرار تل أبيب الضمني بعجزها عن إحباط هذا التوجه للمقاومة بوسائل سياسية أو ردعية، كان لا بد من اجتراح استراتيجية جديدة ــــ قديمة هدفها مواجهة الاستحقاق المتمثل بتعاظم قدرة الأعداء، خصوصاً على الصعيد «النوعي». ووَجْهُ القِدَم في هذه الاستراتيجية هو أن إسرائيل طالما مارست سياسة الهجمات أو الاعتراضات الوقائية ضد مشاريع بناء القوة الخاصة بأعدائها عندما قدرت على ذلك، وأبرز الأمثلة على ذلك مهاجمة المفاعلين النوويين العراقي والسوري (1981 و2007)، وكذلك السيطرة على السفن التي كانت تقل السلاح للمقاومة الفلسطينية (سانتوريني، كارين إي 2001).
أياً يكن، بدأت تبرز، مطلع العقد الجاري، أصوات داخل الجيش الإسرائيلي تدعو إلى بلورة نظرية قتالية متناسقة ومتكاملة على المستويين العسكري والقومي تُعنى بفترات ما بين الحروب، وترى في هذه الفترات ساحة معركة متواصلة بكل معنى الكلمة. وكان أكثر هذه الأصوات وضوحاً صوت رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في الجيش العقيد شاي شبتاي. الأخير قدّم في مقالة نشرتها مجلة «معراخوت» (تشرين الأول 2012) التي تصدر عن الجيش تصوراً أولياً لهذه النظرية التي أطلق عليها «المعركة بين الحروب».
ووفقاً لهذا التصور، فإن المعركة بين الحروب هي عبارة عن «مسار متحرك يتم فيه تطوير واستخدام وسائل من مجالات مختلفة (قانون دولي، إعلام، ديبلوماسية، اقتصاد، فضلاً عن القوة العسكرية) بغية إرباك تعاظم العدو والحفاظ على الردع وتعزيز شرعية إسرائيل وأعمالها تمهيداً لاحتمال نشوب حرب في المستقبل»، على أن تتداخل جهود أجهزة وهيئات مختلفة لتحقق هذه الأهداف.
إلا أن التصور المقترح لم يصل إلى طموحه الجامع، إذ بقيت سائر أجهزة وهيئات «الدولة» بعيدة عن تبنّيه، فيما بادر الجيش إلى تلقفه في إطار عملي يخدم رؤيته الاستراتيجية الجديدة. وهكذا بدأ يتم التداول بمصطلح «المعركة بين الحروب» (أو بأحرفها المختصرة: «مبام») في أوساط القيادة العسكرية الإسرائيلية بعد أن لقي هذا المفهوم تأييداً من قيادة الجيش العليا، وخصوصاً رئيس الأركان السابق بيني غانتس ونائبه (في حينه) رئيس الأركان الحالي غادي آيزنكوت.
وفي طوره المتبلور داخل المؤسسة الأمنية، جرى التعريف بمفهوم «المعركة بين الحروب» بأنه «سلسلة متصلة من العمليات الهجومية المخفضة الوتيرة التي تقع في فترة الهدوء وروتين الأمن الجاري ما بين الحروب الكبرى» (هآرتس 10/8/2013). على أن الغاية منها إدارة الصراع مع القوى المعادية لإسرائيل في إطار العمل على: أولاً، إبعاد موعد الحرب الكبرى المقبلة (هآرتس 31/1/2013)؛ ثانياً، التوفير الدائم «للظروف المؤاتية التي تجعل الحرب الكبرى، المرتفعة الوتيرة ــــ عندما تندلع ــــ ممكنة وسهلة وسريعة الحسم» (مجلة معراخوت، تموز 2012) وبالقدر الأقل من الخسائر المدنية والعسكرية. بهذا المعنى، فإن «المعركة بين الحروب» تهدف إلى تثبيت «قاعدتي نشاط الجيش الإسرائيلي في فترات «اللاحرب»: تعزيز الأمن الجاري من جهة، والإبقاء على ارتفاع الجهوزية الاستخبارية والتفوق العملاني من جهة أخرى (معراخوت، تشرين أول 2012)، ودائماً بما يخدم في تحقيق غاية فرعية أخرى هي تعزيز منسوب الردع الإسرائيلي ولو على قاعدة مراكمة النقاط، وليس الضربة القاضية.
وليس بعيداً عن النقطة المتقدمة، برزت مقاربة في الجيش الإسرائيلي تُقسّم «المعركة بين الحروب» إلى ثلاث وظائف (إسرائيل اليوم، 13/8/2013): وظيفة «المنع» لتعاظم قدرات العدو؛ وظيفة التشويش على أنشطة العدو بما يربك تخطيطه لشن عمليات ضد إسرائيل؛ ووظيفة «الردع» التي من شأنها أن تعزز حضور السطوة والتهديد الإسرائيليين في وعي الأعداء.
على أن الضابطة الأهم في النشاط العملاني لـ»المعركة بين الحروب» هي أن يكون محكوماً، قدر الإمكان، بمنطق «البصمة الخافتة» في الأداء والممارسة، فلا يقود إلى تفجير الأوضاع والذهاب بها إلى حرب كبيرة. ربطاً بذلك، يقتضي المبدأ الأول لإدارة «المعركة بين الحروب» الحرص على أن تبقى هذه المعركة في «المنطقة الرمادية، التي تحدث فيها الأشياء بسرية ومباغتة ومن دون تحمل مسؤوليات» (إسرائيل اليوم، 13/8/2013). والغاية المتوخاة من وراء التشديد على عامل الضبابية في التنفيذ لا يتمثل فقط في «التشويش حول هدف العملية والمسؤولين عنها، وإنما أيضاً السماح للعدو بالبقاء ضمن «مجال الإنكار» الذي يعفيه من إحراج الرد جراء تعرض هيبته أو سيادته للخرق، وبذلك تضبط الضبابية خطر التصعيد» (هآرتس، 10/8/2013).
«المعركة بين الحروب» تعويضٌ عن الردع الإسرائيلي المتراجع منذ ما بعد عدوان تموز
على الصعيد البنيوي، وبحسب ما نُشر في الصحافة الإسرائيلية، بادر الجيش الإسرائيلي إلى خطواتٍ إجرائية من شأنها إكساء «المعركة بين الحروب» بُعداً تنظيمياً داخل المؤسسة العسكرية. من ضمن هذه الخطوات ما ذكرته «هآرتس» (30-6-2013) حول أن رئيس الأركان السابق، بيني غانتس، ألقى على قائد سلاح الجو، أمير إيشيل، مهمة قيادة «المعركة بين الحروب»، «بسبب التميز المتنوع للذراع الجوية القادرة على التحرك بمرونة من ساحة قتال إلى أخرى وعلى الهجوم والتصوير والقيادة والتغطية على قطع بحرية». ويمكن المرء أن يفترض أن وحدات النخبة على اختلاف أنواعها، لها دور بارز في خوض هذه المعركة وراء خطوط العدو، وكذلك الحال بالنسبة لسلاح البحرية الذي يتمحور نشاطه حول اعتراض عمليات تهريب الأسلحة في البحرين الأحمر والمتوسط.
«المعركة بين الحروب» هي، إذاً، بحسب التصور النظري، فرضية عمل مترابطة تهدف إلى تأطير النشاط العسكري والأمني لإسرائيل خلال فترة اللاحرب. لكن من حيث الوقع هي ليست أكثر من إطار مفهومي يراد من خلاله إعطاء «قيمة مضافة» استراتيجية للأنشطة العسكرية والأمنية المتفرقة التي تنفذها إسرائيل. وتتمثل هذه القيمة المضافة بالمفعول الجمعي والتراكمي لهذه الأنشطة الذي يفترض به أن يُترجم بأربعة عناوين هي، بحسب غانتس (معاريف، 18/10/2013): «منع وردع وتأجيل والاستعداد» للحرب المقبلة.
والمقصود بالمنع هنا هو إحباط المخططات العدائية ضد إسرائيل، فيما الردع هو ردع «الأعداء» عن التفكير بهكذا مخططات أو تنفيذها، والتأجيل هو تأجيل الحرب المقبلة على أن يكون الاستعداد قائماً على قدم وساق. وبهذا المعنى، فإن «المعركة بين الحروب» هي في الواقع نوعٌ من الحرب الوقائية المتواصلة التي تديرها إسرائيل بالارتكاز إلى جملة عوامل، أهمها: أولاً، حالة الغموض التي تحيط بها الهجماتِ المُنَفَّذة بما يتيح للجهة المستهدَفة «هامش إنكار» يساعدها في التعامل الاحتوائي مع هذه الهجمات؛ وثانياً، حسن الاستفادة من الظروف السياسية الخاصة بالخصوم بما يضمن إلى حد كبير الرهان على أرجحية عدم مبادرتهم إلى الرد على الاعتداءات الإسرائيلية.
والمفارقة في هذه الحرب الوقائية المتواصلة التي تشنها إسرائيل هي أنها تشكل تعويضاً عن الردع الإسرائيلي المتراجع منذ ما بعد عدوان تموز 2006 برغم أنها تزعم ترميمه. فالحرص الإسرائيلي على الابتعاد عن واجهة المسؤولية في معظم العمليات المندرجة تحت عنوان «المعركة بين الحروب»، كما الحرص على تحيّن ظروفٍ مُقيِّدة للخصوم لتنفيذ هذه العمليات، يدلّان على أن تل أبيب أقل ثقة برادعيتها حيال ردود فعل الخصوم وأكثر تعويلاً على انكباحهم الذاتي بفعل أوضاعهم والأولويات الخاصة بهم. إذ ليس من قبيل الصدفة أن لا تتجرأ إسرائيل على استهداف ما تقول إنها قدرات استراتيجية للمقاومة في سوريا قبل اندلاع الحرب هناك.
وأيا يكن، فإن إسرائيل تدير حربها هذه وهي تعلم أن فائدتها محدودة الصلاحية، وهذا ما صرّح به كبار القادة الإسرائيليين على المنابر، حين أقروا بأن حزب الله بات يمتلك أنواعاً مختلفة من الأسلحة الاستراتيجية الكاسرة للتوازن، هي نفسها التي يُفترض بـ»المعركة بين الحروب» أن تحبط حيازته لها.