اجتاح مئات المسلّحين عرسال ليل ٢ آب من عام ٢٠١٤، بعد توقيف عماد جمعة (أبو أحمد) قائد «لواء فجر الإسلام» الذي بايع «أبو بكر البغدادي» على رأس أكثر من مئتي مسلّح في فيديو مصوّر قبل يومٍ من توقيفه. كانت أهداف «الغزوة» احتلال عرسال وإسقاط مراكز الجيش اللبناني لقتل العدد الأكبر من جنوده وأسر آخرين لمبادلتهم بالموقوف جمعة، وتمهيداً لتنفيذ مخطط أكبر متصل بأهداف كبرى لتنظيم «الدولة الإسلامية».
تفاصيل ذلك اليوم، بقيت ضبابية أمام الرأي العام جراء تداول أكثر من رواية بشأنه وتعدد الأحداث التي شهدتها بلدة «عرش الإله»، كما يُطلق عليها في الآرامية، خلال سنوات الأحداث السورية الست. المشهد الأول الذي لا تزال تختزنه الذاكرة بكل تفاصيله، يوم كمنت قوة من فوج المجوقل للمطلوب خالد حميد في أحد نهارات شباط عام ٢٠١٣، والذي قُتل في تبادل لإطلاق النار، قبل أن يتحوّل إلى كمين مضاد لأفراد القوة العسكرية التي استشهد منها كل من الرائد بيار بشعلاني والرتيب خالد زهرمان، وجُرح باقي أفراد القوة. وقد اعترف الموقوف حسن حميد بقتل الشهيدين النقيب بيار بشعلاني والرقيب ابراهيم زهرمان، علماً بأن الصور التي سُرّبت كشفت أن العشرات شاركوا بالتنكيل بالعسكريين الأحياء وبجثث الشهيدين. هذه الواقعة أُطلق عليها «غزوة عرسال ١»، فيما اجتياح الثاني من آب عام ٢٠١٤ بات يُعرف بـ«غزوة عرسال الثانية».
في ذلك اليوم، بدأ الهجوم من مسلّحي «لواء فجر الإسلام» ومسلحي «الدولة الإسلامية»، بقيادة أمير الجرود في حينه أحمد طه المشهور بـ«أبو حسن الفلسطيني» الذي قتل بقذيفة للجيش اللبناني أثناء الهجوم، قبل أن تلتحق بهم باقي الفصائل التي كانت تتحصّن في الجرود اللبنانية السورية بعد انسحابها من قرى القلمون إثر انهزامها في مواجهة حزب الله والجيش السوري. انضمت جبهة النصرة إلى المعركة ليلتحق بها كل من «كتيبة لواء الحق» و«كتيبة الفاروق» بقيادة موفق الجربان (أبو السوس) (الذي أصبح أمير «داعش» لاحقاً) و«مغاوير القصير» بقيادة عرابة ادريس ونائبه عبدالله بكار المعروف بـ«المقنع» و«لواء صقور الفتح» يقوده أبو عبدو غنّوم و«لواء وأعدّوا»؛ إضافة إلى «كتائب عبدالله عزام» بقيادة «أبو عبدالله الشرعي» الذي تبيّن أنّه نفسه الشيخ سراج الدين زريقات الذي أُخرج من السجن بوساطة سياسية. وكان عديد أصغر فصيل بين هؤلاء يتجاوز المئة مسلّح. إضافة إلى عشرات المجموعات الصغيرة التي يتراوح عديدها بين ٢٠ و٣٥ مسلّحاً والتي قاتلت تحت راية فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام. هذه المعلومات كشفتها إفادات عشرات الموقوفين الذين تمكنت استخبارات الجيش والأمن العام وفرع المعلومات من توقيفهم خلال الأشهر التي تلت أحداث عرسال. في ما يلي، خلاصة محاضر التحقيقات لدى الجيش ومضمون القرار الاتهامي في أحداث عرسال الذي استند إلى إفادات الموقوفين الذين كشفوا أنّ عدداً من الجنود رفضوا الاستسلام للمسلّحين، واختاروا الشهادة على تسليم أنفسهم. ورغم أنّ إفادات معظم الموقوفين أمام المحققين أجمعت على أنّهم تلقوا أوامر بمهاجمة عرسال لقتل وأسر عسكريين بعد توقيف جمعة لإخراجه بعملية تبادل، إلا أنّ القرار الاتهامي الذي استند إلى استجوابات كل من قاضيي التحقيق عماد الزين ونجاة أبو شقرا في ملف ادُّعي فيه على ١٥٢ شخصاً، كشف أن توقيف جمعة سرّع مخططاً كان يُعدّ له ١٣ فصيلاً لاحتلال قرى «الرافضة والنصارى» الحدودية. وقد برز لافتاً في القرار الاتهامي الادعاء غيابياً على مصطفى الحجيري المشهور بـ«أبو طاقية».
الهجوم الأبرز نفّذته مجموعة تتبع لـ«الدولة الإسلامية» بتكليف من الأمير أبو أسامة البانياسي. أول الأهداف كان حاجز «عقبة المبيضة» حيث تمكنوا من أسر عدد من العسكريين. وقد ظهر هؤلاء في مقطع فيديو يقتادون جنود الجيش الأسرى، فيما يصرخ أحدهم في وجه عسكري قائلاً: «قل دولة الإسلام باقية». ثم هاجمت مركزاً للجيش على رأس تلة مفرق حاجز وادي حميد. وبحسب الاعترافات، قتل بلال ميقاتي عسكرياً على حاجز وادي حميد بإلقاء قنبلة عليه. كذلك قام كل من ميقاتي وأبو أسيد بقتل عسكري آخر داخل ملالة ألقيا عليها أربع قنابل يدوية. وقام هذا الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من عمره ويُلقّب بـ«أبو هريرة»، بصلب أحد العسكريين على شباك المقرّ بعدما ربطه بحبال ليُبقيه لأيام.
كذلك شنّت مجموعة مسلّحة هجوماً على مركز الكتيبة ٨٣ قرب مهنية عرسال، المعروف بمركز المهنية، الذي استُشهد فيه ضابطان وثلاثة عناصر. وبحسب إفادة الموقوف ابراهيم بحلق، اعترف بأنّه بايع جبهة النصرة، ليقاتل ضمن مجموعة أبو حسين السحلي الذي طلب منه في ٢ آب أن يلاقيه مع سلاحه في محلة السبيل في عرسال، كاشفاً أنه بوصوله شاهد قرابة مئة مسلح مجتمعين. ومن هناك، انتقل إلى منطقة رأس السرج مع السوري محمد سيف الدين (سيفو)، شقيق أحمد سيف الدين الملقب بـ«السلس»، بهدف قطع طريق المستوصف لمنع المدنيين اللبنانيين والسوريين من مغادرة عرسال تنفيذاً لتعليمات قيادة جبهة النصرة. توجهوا بعد ذلك إلى مركز المهنية التابع للجيش لمهاجمته. بحلق هذا ذكر أنّه أطلق النار على أحد العناصر وشاهده يسقط أرضاً. لكنّ مطلق النار لم يلبث أن أُصيب ليُنقل إلى المستشفى. وبحسب إفادته، فإن ابن عمه فادي والسوري ابراهيم التويني أخبراه أن العنصر الذي أصابه قد قُتل وأنّه المقدم نورالدين الجمل.
أحد قادة الهجوم كان أنس جركس الملقب بـ«الشيشاني» (أوقف الأمن العام زوجته وظهر في فيديو يتوعّد اللبنانيين). وقد ذكر المتهم فرحان العامر الذي أوقفته استخبارات الجيش لدخوله الأراضي اللبنانية خلسة، ليتبين أنّه مبايع لكتيبة الفاروق بإمرة موفق الجربان، التي كانت تقاتل تحت راية جبهة النصرة في حينه. أقرّ بأنّ مسؤوله المباشر كان «الشيشاني» الذي يقود مجموعة عديدها ٢٥ عنصراً جميعهم سوريون. وصرّح الموقوف بأنّه بعد توقيف جمعة، أبلغهم الشيشاني بتلقيه أوامر لمهاجمة مواقع الجيش اللبناني وأسر أكبر عدد ممكن من العسكريين للتفاوض عليهم لإطلاق سبيله.
وقد حاصر مسلحون ينتمون إلى «جبهة النصرة» و«كتيبة لواء الحق» مبنى فصيلة الدرك في البلدة، فتدخّل عدد من أبناء البلدة لمنعهم من اقتحامها، فأعدم المسلحون بعضهم. استشهد يومها من أبناء عرسال كمال عزالدين ومحمد نوح وأصيب حسن عزالدين برصاصة في الرأس. وعلى الأثر، خطف المسلحون 21 عنصراً من قوى الأمن الداخلي توزعوا بين عناصر الفصيلة والقوى السيارة، ونقلوهم إلى مسجد الفاروق العائد لـ«أبو طاقية». وأُجبِر هؤلاء على نشر فيديو يتحدثون فيه عن «انشقاقهم» عن الأجهزة الأمنية اللبنانية. وفي حادثة الفصيلة، روى الموقوف السوري محمد شهاب الذي كان يقاتل تحت راية «كتيبة لواء الحق» التي يقودها كل من ياسين سويد وصالح عامر المعروف بـ«أبو جعفر عامر»، للمحققين أنهم اقتحموا فصيلة عرسال وخطفوا عناصرها ثم أُفرغت الفصيلة من محتوياتها لتنقل الأعتدة العسكرية والأسرّة وتجهيزات الفصيلة باعتبارها «غنائم حرب» إلى الجرود. كذلك اعترف السوري وثاب الحاج حسن بأنّه شارك في الهجوم على مركز وادي عطا التابع للجيش، حيث أسروا عدداً من العسكريين بهدف التفاوض لإطلاق سراح محمد جمعة. أما الموقوف محمد حقوق الذي ينتمي إلى مجموعة «أبو خالد السريع»، فقد تمركزت بالقرب من مدينة الملاهي منتظرة وصول المجموعات الأخرى. وذكر في إفادته أنّه عندما بلغ عددهم خمسين مسلحاً، اشتبكوا مع عناصر الجيش على حاجز وادي حميد الذي سقط بعد ثلاث ساعات من الحصار ليستولوا على محتوياته، حيث وُجِد أربع جثث لعسكريين.
وذكر أحد الموقوفين أنّه شاهد مجموعة من «النصرة» يرأسها اسكندر عامر الملقب بـ«ابو طلال» ينقلون عسكريين من مخفر عرسال، ويرافقهم «أبو طاقية». وكشف الموقوف السوري عبدالله رحمة عن أنّ اجتماعاً عُقِد بحضور الحجيري، اتّخذ فيه أحد نواب أبو مالك التلّي الملقّب بـ«الأحوازي» ضرب المهنية التي تعرضت لهجوم، فسقط عسكريون وأُسر آخرون. وذكر المتهم أنّه حضر ذلك الاجتماع، كما كان حاضراً لدى تصوير العسكريين بعد أسرهم، وعلم بأنهم نقلوا الى منطقة الزمراني واحتجزوا في مغارة كبيرة. وقدّر المتهم عدد مسلحي داعش في القلمون بحدود 1300، مشيراً إلى أن «أبو بلقيس العراقي» كان الأمير العسكري الذي تولّى قيادة الهجوم مع أبو طلال الحمد، بعد إصابة أبو حسن الفلسطيني إصابة قاتلة.