سقوط أيوب ثابت المتزمت والطائفي وطراد يُجري انتخابات 1943
في أواخر العام 1942، نشط الوطنيون اللبنانيون في المطالبة بعودة الحياة الدستورية واجراء انتخابات نيابية عامة، ورأى اللبنانيون المتطلعون إلى الاستقلال، كما يقول الرئيس بشارة الخوري «ان الفرصة قد سنحت، فالحرب مشتعلة في كل مكان، ورؤساء الدول المتحالفة وكبار سياسييها ينادون بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويعدوها بالحرية والاستقلال، وقد وقعوا في ما بينهم ما دعي في ما بعد بميثاق بالاطلسي تكريساً لهذه المبادئ».
وادرك الوطنيون ان ساعة تحقيق حلمهم قد دقت وأن آوان إنهاء حالة الانتداب والاستفادة من الخلاف الناشب بين فرنسا وبريطانيا، خصوصا بعد ان تألق نجم الانكليز وتراجع نجم الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية.
وبعد ان هزم الجنرال مونتغمري خصمه روميل في معركة العلمين وطرده إلى مشارف الاسكندرية، بدا واضحاً ان حلم هتلر في السيطرة على الشرق الأوسط قد لاشته رمال الصحراء وقضت عليه، وان الطاغية النازي ارتد نهائياً عن هذه البقعة من الأرض.
وفي مصر فرض الانكليز مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد المصري على الملك فاروق، بقوة الدبابات التي حطمت باب قصر عابدين، وصار النحاس رئيساً للحكومة المصرية، إضافة إلى كونه زعيماً وطنياً تخطى نفوذه حدود مصر إلى جميع الأقطار العربية ومنها لبنان. فتراجع النفوذ الفرنسي في لبنان متأثراً بهذه الأحداث كلها، وعظم نفوذ الانكليز.
وتعددت اتصالات الوطنيين السوريين واللبنانيين بالشقيقة الكبرى مصر، وزعيمها النحاس، وكانوا يعرفون، كما يقول الرئيس شارل حلو «ان لرئيس الوفد المصري كلمة مسموعة لدى القيادة الانكليزية المتمركزة في القاهرة. فلا بدّ من ان تؤيد مساعيه لجمع العرب الواثقين بمبادئ الحلفاء الديمقراطية… وهكذا وضع النحاس باشا ثقله لمصلحة لبنان وسوريا، وكان كاترو وسبيرز سافرا أكثر من مرّة إلى القاهرة وبحثا معه مصير البلدين، واسفرت المباحثات معه على إعادة الحياة الدستورية، واجراء انتخابات نيابية في لبنان، على أساس إلغاء مبدأ التعيين وانتخاب جميع النواب من الشعب انتخاباً مباشراً».
ومنذ مطلع العام 1943، شرع الجنرال سبيرز في بيروت يلح على وجوب اجراء الانتخابات النيابية في سوريا ولبنان، ولم يجد الفرنسيون الأحرار بعد ان كانوا قد اعترفوا باستقلال البلدين عذراً لرفض هذا الطلب. فماطل الجنرال كاترو بضعة أشهر في تحديد موعد لهذه الانتخابات، تنفيذاً لتعليمات وردته من الجنرال ديغول، لكنه اضطر آخر الأمر إلى الرضوخ للضغط البريطاني، فأعلن في 25 آذار 1943 عودة الدستورين: السوري ولبناني، بعد ان كان قد اقال في 18 آذار الرئيس ألفرد نقاش وحكومته التي يرأسها سامي الصلح، وعين بدلاً منهما الدكتور أيوب ثابت كرئيس للدولة والحكومة ووزير الداخلية والعدل والتموين.
خالد شهاب: وزير المال والتربية والتجارة والصناعة والزراعة والبرق والبريد.
جواد بولس: وزير الاشغال العامة والخارجية والصحة.
ويصف الرئيس شارل حلو الدكتور أيوب ثابت بقوله: «رجل الخلق والاستقامة، المعروف بسوء طباعه، اكثر مما هو معروف بالخدمات التي اداها للدولة طيلة عشرات السنوات». ويصفه الرئيس بشارة الخوري بقوله: «انه كان مزيجاً من صفات طيبة ونقصان سياسي تغذيه انانية بالغة فيها بعض الإباء وكبر النفس».
كانت مهمة ثابت اجراء انتخابات نيابية يعقبها انتخاب رئيس للجمهورية، فاصدر في 17 حزيران 1943 مرسوماً تشريعياً حدّد به عدد النواب وتوزيع الكراسي على المحافظات والطوائف، فتقرر ان يكون 32 مقعداً للمسيحيين و22 مقعداً للمسلمين، فأثار عمله هذا احتجاجاً صارخاً من قبل الطوائف المحمدية، ووجوماً لدى العناصر المسيحية التي تعلق كما يقول الرئيس الخوري «اهمية جوهرية على قيام العلائق الحسنة بين الفئتين اللتين يرتكز عليهما قيام الوطن. وتنادى المسلمون إلى مؤتمر عام في بيروت وانعقد على وجه شامل، ولم يحضر سوى ممثلين عن السنّة والشيعة والدروز، وألقيت خطب قاسية جداً واعتراضات قوية كادت تشل الحكومة وتثير الفتنة، مما اضطر الجنرال كاترو إلى ان يعود من الجزائر على جناح السرعة لتلافي وقوع حوادث طائفية».
ويؤكد جواد بولس انه حاول ان ينبه الرئيس أيوب ثابت إلى مخاطر المواجهة مع المسلمين، طالباً إليه العودة عن قانون الانتخابات، وان يعد العدة لقانون جديد لكن الرئيس المعين رفض ذلك.
المهم، ان الحكومة الجديدة «بدأت الاعداد للانتخابات النيابية، ولم تلبث ان اصطدمت برغبة الجنرال سبيرز القائل بعدم الاعتماد على الإحصاءات المعمول بها، لأنَّ فيها عشرات من أسماء المغتربين الذين لا يعيشون في لبنان، وهذه الإحصاءات تجعل عدد النواب المسيحيين زائداً زيادة نعتها الجنرال سبيرز بأنَّها مفتعلة، لكن حكومة الدكتور أيوب ثابت اصرت على اجراء الانتخابات بموجب الإحصاءات فرفض سبيرز حجتها رفضاً جازماً، وفجأة تحرك الشارع واضطرب الرأي العام وبدأ الغليان، وقامت تظاهرات عاصفة هددت الأمن في لبنان كلّه، مما جعل النحاس باشا يتدخل في الأمر، واقتنع كاترو بوجوب الضغط على الحكومة كي تحقق رغبة سبيرز».
ويعلق الجنرال كاترو على هذه التطورات: في 18 آذار 1943 الفت حكومتين مؤقتتين في دمشق ولبنان لهما مهمة تحضير عودة الحياة الدستورية بانتهاج انتخابات نيابية، جئت إلى لبنان في القسم الأوّل من شهر تموز حيث كانت الانتخابات النيابية تهيَّأ في جو محموم، وكان النضال بارزاً بين الجنرال سبيرز والمندوبية الفرنسية وقد لفت نظري امران مهمان:
اولهما: اتحاد الطوائف المحمدية لمقاطعة الانتخابات وذلك على اثر تحيّز رئيس الدولة آنئذٍ أيوب ثابت مع الفئة المسيحية بإصداره قراراً يسجل بموجبه المهاجرون اللبنانيون في قائمة الناخبين. لاكثار عدد مقاعد المسيحيين في المجلس المقبل. وقد اثار هذا العمل الخشن البلاد العربية فهبت لمساعدة المسلمين في احتجاجهم وحضتهم على مقاطعة الانتخابات، الأمر الذي أوجب عليها التدخل لدى أيوب ثابت وطلبت منه ان يعود عن قراره، فرفض وآثر الانسحاب من الحكم فعين بترو طراد مكانه.
اما الأمر الثاني فهو مساعدة المندوبية الظاهرة لأحد المتنافسين على الرئاسة، اميل إده، لقد كان رأيي ان تساعد فرنسا بشارة الخوري الذي كانت انانيته تجعله يعلق أهمية كبرى على وصوله إلى الرئاسة، وكان من الواجب على فرنسا ان لا تخيب رجاءه».
بترو طراد
في عام 1936، ضاعت على بترو طراد، تكرار تجربة الرئيس شارل دباس الارثوذكسي بأن يكون رئيساً، وذلك بأن «يخترق حصّن الرئاسة كرجل تسوية بعد اشتداد الصراع بين اميل إده وبشارة الخوري»، لكن هذه المرة «عادت إليه صاغرة»، بعد ان تعنت الرئيس أيوب ثابت، وإقالته من قبل الجنرال كاترو، حيث صدر عن جان هيللو وكيل المفوض السامي في 21 تموز 1943 قراراً حمل رقم 301 «F.C»، عين بموجبه بترو طراد رئيساً للدولة، وفي اليوم نفسه صدر مرسوم رقم1 T.B عين بموجبه عبدالله بيهم أمين سر الدولة، وتوفيق لطف الله عواد أمين سر للدولة».
وبالمناسبة فبترو طراد هو «ابن اسكندر طراد كان وجيه قومه، وخبير عقاري من الدرجة الاولى»، وبترو هو «واحد بين ثمانية أبناء ستة صبيان وبنتان، وأحدهم ميشال هو والد السيدة نينا عقيلة الرئيس شارل حلو».
وكان بترو طراد «معروفاً عند اصدقائه بالمحامي اللامع والمرجع القانوني ومستشار غالبية الأسر اللبنانية الكبيرة المتجمعة في شارع سرسق، وكان يجيد الكتابة والحديث باللغتين العربية والفرنسية، وكان ذا ميل جارف لمناداة من يكلمه أو يتكلم «اخونا»، وكان ايضا متزن الطبع، مما يتيح له إعادة أي مشكلة صعبة في نظر سواه إلى حجمها الطبيعي».
المهم انه بعد عشرة أيام من قرار تعيين بترو طراد رئيساً للدولة صدر قرار آخر عن المسيو هيللو بتأليف مجلس النواب المدعو لتأمين عودة الدستور اللبناني من 550 نائباً وزعهم على المناطق بحيث أصبح عدد المسيحيين 30 نائباً وعدد المحمديين 25 نائباً، ويقال ان النحاس باشا رئيس وزراء مصر هو الذي اقترح هذا الحل على الجنرال كاترو فرضي به.
وفي 5 آب من عام 1943 أصدر الرئيس الجديد مرسوماً اشتراعياً بدعوة الهيئات الانتخابية للاقتراع يوم الأحد في 29 آب للدورة الأولى، ويوم الأحد في 5 أيلول الدورة الثانية، على ان يلتئم المجلس الجديد في 21 أيلول لانتخاب رئيسه ومكتبه ثم رئيس الجمهورية الجديد، لتكون بعدها كل التطورات الاستقلالية.