مفاجأة وزارة المال.. أرقام العجز على أساس القاعدة الاثني عشرية 7.67%
لم يكن نهار البارحة شبيهاً بالأيام الثلاثة التي سبقته مع الاحتجاجات الكبيرة التي واكبت التصويت على مشروع موازنة العام 2019. عشر سرايا من الجيش اللبناني لحماية مجلس النواب من الاقتحام من قبل العسكريين المتقاعدين انتهت بانسحابهم من محيط المجلس مع إحباط وغضب كبير لعدم الأخذ بمطالبهم.
الموازنة أُقرّت بعد التصويت عليها في مجلس النواب بـ 83 صوتاً ومعارضة 18 نائباً وتنتظر نشرها في الجريدة الرسمية لكي تفتح المعارضة جبهة الطعن أمام المجلس الدستوري. وإذا كان الطاعنون المُحتملون كثراً، إلا أن خلفيات الطعن لكل معارض تختلف عن الأخر.
وأظهرت جلسات المناقشة وجلسة التصويت إلى العلن «مسرحية» بتوقيع القوى السياسية حيث ان المزايدات التي شهدناها، كذّبتها أرقام وزارة المال التي نُشرت البارحة على موقع وزارة المال وتُظهر أن العجز المحقّق على الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام هو 7.67% (على أساسي سنوي) أي أن الصرف على أساس القاعدة الاثني عشرية أمّن هذا الخفض من دون موازنة. وهذا الأمر يطرح السؤال عن امتناع وزارة المال عن نشر الأرقام خلال فترة مناقشة الموازنة؟
} جلسة مُتشنّجة داخل المجلس }
جلسة التصويت البارحة على مشروع الموازنة بدأت بتلاوة كتاب استقالة النائب نواف الموسوي من قبل الرئيس برّي بحسب الأصول التي تنصّ عليها المادّة 17 من النظام الداخلي لمجلس النواب، وبالتالي أصبحت الاستقالة نافذة. ثم بدأت الجلسة المُقفلة للتصويت على البنود الـ 96 للموازنة.
الأجواء السياسية داخل الجلسة كانت مُتشنّجة وبدأت مع السجال بين الوزير محمد شقير والنائب ياسين جابر على خلفية تخفيضات بقيمة 14 مليار ليرة على رواتب موظّفي أوجيرو، مما استدّعى تدخّل الرئيس الحريري الذي قال «في السياسة ممنوع التصويب على أوجيرو أما في التوظيفات فكل الأحزاب وظّفت في أوجيرو». الوزير جمال الجرّاح قال من جهته أن هناك استهدافاً واضحاً لرئيس الحكومة وكتلته من خلال التصويب على الموازنات والاعتمادات المُخصّصة لكل من مجلس الإنماء والإعمار (الذي تمّ تخفيض 100 مليار ليرة من موازنته)، الهيئة العليا للإغاثة وأوجيرو (التي تمّ تخفيض 14 مليار ليرة من موازنتها) وأيّده في ذلك النائب وائل بو فاعور الذي تحدّث عن استهداف سياسي واضح. هذا الاتهام ردّ عليه النائب إبراهيم كنعان بالقول أن »لا إستهداف سياسي ونمارس دورنا الرقابي وخلفيتنا الوحيدة الشفافية». كذلك فعل النائب آلان عون عبر تصريح أن «لا استهداف ولكن الأجواء مُتشنّجة بالفعل داخل الجلسة».
حدّة التشنّج زادت لدرجة دفعت الرئيس نبيه برّي إلى رفع الجلسة مدّة عشر دقائق والإجتماع بالرئيس سعد الحريري في محاولة لتخفيف التشنّجات التي واكبت الجلسة وانضم لاحقا إلى الاجتماع كل من إيلي الفرزلي وإبراهيم كنعان.
الجلسة التي استمرّت حتى الساعة التاسعة، شهدت اعتراضا من الرئيس ميقاتي الذي تحفّظ عن مسار النقاش الدائر في المجلس بشأن بنود الموازنة. كما كان للنائب سامي الجميل تمنّ لو أن التصويت كان إلكترونياً وبجلسة علنية «ليرى اللبنانيون مصير الوعود الكاذبة».
} ثكنة عسكرية في الخارج }
في الخارج كان محيط المجلس النيابي يعيش أجواء ثكنة عسكرية أكثر منه مجلس نواب مع إقفال شبه كاملة للنقاط المؤدّية الى المجلس النيابي من قبل القوى الأمنية بهدف منع العسكريين المتقاعدين من الوصول إلى مجلس النواب. العسكريون المتقاعدون حاولوا التقدّم باتجاه ساحة النجمة، ونجحوا في اختراق الحواجز الأولية وإزالة الأسلاك مما استدعى اتصالات مع قيادة الجيش انتهت بإرسال عشر سرايا من وحدات الجيش إلى محيط المجلس. وحصل تدافع كبير بين العسكريين المتقاعدين وعناصر من الجيش اللبناني المولجين حماية المجلس مما دفع وزير الدفاع الياس بو صعب إلى طلب العميدين المتقاعدين جورج نادر وعبد المنعم مكّي للاجتماع بهما. وعند خروج العميدين من الاجتماع توجّه العميد نادر إلى المتظاهرين بالقول أن «هناك تأكيدات من مجلس النواب أنه لن يتمّ المسّ بأهالي الشهداء وعوائلهم مهما كانت الرتب وأنه لن يتمّ المسّ بالشطور الدنيا للعسكرين». إلا أن هذا التصريح أثار غضب المتظاهرين ورفضوا هذا التصريح وأطلقوا اتهامات بحق العميدين. هذا الأمر استدعى مؤتمراً صحفياً أقامه وزير الدفاع من داخل مجلس النواب حيث أعرب عن أسفه من المشهد خارج المجلس وندّد بالتضليل الذي تعرّض له العسكريون المُتعاقدون. ونفى وجود أي صفقة تمّت مع العميدين اللذين دعاهما لإعلامها بأن الضريبة تشمل فقط أساس الراتب وليس المُتمّمات ولا تشمل العسكر بل تشمل الرتب العالية. وأضاف أن الخصم لا يتجاوز الـ 3000 ليرة على أساس الراتب للعسكري وتصل إلى 100 ألف للعميد والعقيد المُتقاعد. وقال أن بند الطبابة تمّ تخفيضه من 3% إلى 1.5% وأنه سيتم العمل على تحسين إمكانات الجيش ودرس كيفية التعويض على التخفيضات مع إستثناء كامل لعوائل الشهداء والمعوقين العسكرين من أي ضريبة أو تخفيض. وختم بالقول أن إجراءات التخفيض تُطبّق على كل موظفي القطاع العام.
على أثرها كان هناك بيان للعسكريين المُتقاعدين عبّروا فيه عن رفضهم للموازنة واستمرار تحركاتهم التصعيدية بكل الوسائل وأولها الطعن في الموازنة أمام المجلس الدستوري، وتمّ بعد ذلك فك الاعتصام.
} إقرار الموازنة }
لم يكن مُفاجئا إقرار مشروع موازنة العام 2019 على الرغم من انتقادها من كلّ الوزراء والنواب! أقرّت المواد الستة وتسعون الواحدة تلوّ الأخرى منها ما عُدّل ومنها ما أقر في حالته كما ورد في مسودة لجنة المال والموازنة.
المواد التي تتعلّق بالعسكريين تمّ إقرارها كما وردت من لجنة المالية والموازنة وعلى رأسها المادّة 23 التي تنصّ على فرض ضريبة دخل على العسكريين كما وردت في مسودة لجنة المال والموازنة. وردا على بعض الاعتراضات، قال الرئيس برّي ان هذه التخفيضات جاءت بالتفاهم مع قيادة الجيش. في المقابل أقرّ مجلس النواب عدم المسّ بعائدات صندوق القضاة من غرامات السير (800 مليون ليرة لبنانية). وقام بتخفيض 100 مليار ليرة لبنانية من اعتمادات مجلس الإنماء والإعمار و14 مليار ليرة من رواتب أوجيرو وخفّض موازنة هيئة الإغاثة مع اعتراض من قبل كتلتي المستقبل والاشتراكي.
وأقرّت الهيئة العامّة للمجلس 35 مليار ليرة إضافية لتلبية حاجات مؤسسات الرعاية الجتماعية كما أوصت به لجنة المال والموازنة بالإضافة إلى رسم سنوي على اللوحات المميزة. كما أقرّت المادة المُتعلّقة بزيادة الرسوم على دخول السياح إلى لبنان وعلّقت المادّة المُتعلّقة بالهبات والقروض (بسبب الخلاف على مراقبتها) إضافة إلى بند البريد وليبان بوست (بسبب غياب الإيضاحات من قبل المعنيين).
والمفاجأة الكبّرى أتت من تعليق مجلس النواب للمادّة 60 والتي تنصّ على فرض رسم 3% على البضائع المُستوردة والتي تخضع للضريبة على القيمة المُضافة مما دفع الرئيس سعد الحريري والوزيرين علي حسن خليل ووائل بو فاعور إلى الخروج من الجلسة لعقد لقاء جانبي للبحث في هذا الأمر. وبعد نقاش فائض تمّ إقرار هذا البند مع إعفاء البنزين والمواد الأولية المتعلّقة بالزراعة والصناعة.
أيضا تمّ فرض ضريبة على أصحاب المولدات كان قد طرحها النائب ياسين جابر من خارج مشروع الموازنة شرطّ ألا يتمّ تحميلها للمشتركين.
} الطعن بالموازنة }
إعتبر مجلس النواب أن إقرار قانون التمديد للحكومة بفترة سماح ستة أشهر لتقديم قطوعات الحساب هو حلّ قانوني لتفادي تطبيق المادّة 87 من الدستور اللبناني، أي المادّة التي تنصّ على إقرار قطع الحساب قبل نشر الموازنة. إلا أن الخبراء القانونيين يعترفون علنًا بعدم دستورية هذا الأمر نظرًا إلى أن لا القانون الخاص ولا العام يُمكنه إلغاء الدستور. وحتّى في فرضية تعديل المادّة 87 من الدستور يعتبر الحقوقيون أن هذا الأمر قابل للطعن أمام المجلس الدستوري.
هذا الأمرّ سيُشكلّ بابًا للمعارضة في المجلس النيابي لتقديم الطعن في قانون الموازنة بعد نشره. والمُعارضون لموازنة العام 2019 كُثر في المجّلس النيابي وعلى رأسهم كتلة القوات اللبنانية، نواب الكتائب، وكلٌ من النواب فيصل كرامي، جهاد الصمد، اسامة سعد، بولا يعقوبيان وشامل روكز.
حسابات القوّات اللبنانية السياسية مُختلفة عن حسابات باقي المعارضين، فالقوات اللبنانية ساهمت في مشروع الموازنة إن في الحكومة أو في مجلس النواب وبالتالي مُعارضتها تأتي (بحسب القوات) من أن الإجراءات الموجودة غير كافية. مما يعني أن الطعن القواتي (15 نائبًا) إذا ما حصل قد تكون له حسابات أخرى مُغايرة لحسابات المعارضة الأخرى مثل معارضة الكتائب والنواب فيصل كرامي، جهاد الصمد، اسامة سعد، وبولا يعقوبيان.
على أية حال، سبق للمجلس الدستوري خلال الطعن في موازنة العام 2017 أن قال كلمته وأغلب الاحتمالات سيُعاود قولها: «بين غياب الموازنة التي هي أساس الانتظام المالي، ووجود موازنة من دون قطع حساب، الخيار محسوم لمصلحة الثاني». من هذا المُنطلق، سيكون ملفّ الطعن في الموازنة مبنياً (بالإضافة إلى قطع الحساب) على عدّة مخالفات مثل عدم احترام الشمولية وغيره. وفي أحسن الأحوال سيكون هناك قبول بالطعن في أحد مواد الموازنة مما قدّ يؤثّر في عجزها كمّا صرّح الوزير علي حسن خليل خلال إلقائه كلمته الختامية في مجلس النواب يوم الخميس الماضي مُحمّلا إبطال 4 مواد من موازنة العام 2018 مسؤولية العجز الذي وصلت إليه هذه الموازنة.
} عجز موازنة ومفاجئة وزارة المال }
أصدرت وزارة المال البارحة تقريرها عن وضع المالية العامة وذلك على الأشهر الأربعة الأولى من العام 2019. وأتت النتائج على الشكل الآتي : الإيرادات 3.46 مليار دولار أميركي، النفقات 4.84 مليار دولار أميركي، العجز في الموازنة 1.38 مليار دولار أميركي والميزان الأوّلي سجّل فائضا خجولا بقيمة 22.8 مليون دولار أميركي. هذه الأرقام أفضل من أرقام الفترة نفسها من العام 2018 التي كانت على النحو الآتي : الإيرادات 3.81 مليار دولار أميركي، النفقات 5.73 مليار دولار أميركي، العجز في الموازنة 1.91مليار دولار أميركي والميزان الأوّلي سجّل عجزا بقيمة 365.3 مليون دولار أميركي.
وبمحاكاة تعتمد مبدأ الإينرثيا (Inertia) المعروف في الاقتصاد، من المتوقّع أن يكون عجز موازنة العام 2019 بحدود 4.14 مليار دولار أميركي، أي ما يوازي 7.67% من الناتج المحلّي الإجمالي.
بمعنى أخر أن الصرف على أساس القاعدة الاثني عشرة يؤدّي إلى عجز بنسبة 7.67% من الناتج المحلّي الإجمالي وهو أقلّ مما يطلبه مؤتمر سيدر. وهذا يطرح السؤال عن سبب عدم نشر وزارة المال أرقامها خلال فترة مناقشة الموازنة والذي قد يقترح أن خفض العجز في الموازنة لا يعود إلى الموازنة التي صوّت عليها مجلس النواب بل هي نتاج وقف الإنفاق بكل بساطة. الجدير ذكره أن الوزير علي حسن خليل كان قد أصدر مذكّرة في نيسان الماضي إلى مراقبي عقد النفقات يطلب منهم الامتناع عن التأشير عن أي نفقة باستثناء الأجور ومُكمّلاتها والنقل. أيضًا يتوجّب التذكير أن العام 2018 شهد انتخابات نيابية وتوظيفاً عشوائياً لم تتم المحاسبة عليه حتّى الساعة.
كل هذا يقترح أن خفض العجز في نهاية العام 2019 (إذا ما صحّ) لن يكون بفضل إجراءات موازنة العام 2019 بل هو نتاج خفض الإنفاق في القطاع العام عبر وقف كل أنواع الإنفاق والذي بالطبع سيكون ثمنه تراجع النمو الاقتصادي حتى وصوله إلى الصفر أو حتى الانكماش.
على كلٍ تصرّف النواب في جلسة التصويت حيث تمّ تعليق مواد وإضافة مواد يُوحي بأن الطابع السياسي هو الطاغي على عملية التصويت وليس الطابع الحسابي مما يدّعم فكرة أن النواب والوزراء يعلمون مُسبقًا أن العجز من دون إجراءات الموازنة هو أقلّ مما يفرضه مؤتمر سيدر.
على كل الأحوال وبغض النظر عما إذا كان هذا السيناريو صحيحاً أو لا، هناك مواجهات سياسية حادّة منتظرة بين القوى السياسية على خلفية التصويت على مشروع الموازنة خصوصًا بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، وبين المُستقبل والتيار الوطني الحرّ وبين حركة أمل والمُستقبل. هذه المواجهات أرستها عملية التصويت التي وصفها الرئيس الحريري بأنها استهداف سياسي.