IMLebanon

تطويب الراهبين عويس ملكي وصالح اليوم في دير الصليب – جل الديب

 

 

كأنّه احتفال ديني عالمي و”علامة رجاء من الرب بأنه معنا ولن يُفلِت يدنا”

 

«كلما يقوى إبليس، بيطلّ علينا قدّيس، وهالمرّة قدّيسين… كلما يعلا صوت الشر منمحيه بمسابح خير من كَعْب الوادي للدَير… من شربل بطَل عنّايا لرفقا بنت حملايا… من معلّمنا الحرديني ليعقوب دير الصليب… لأبونا أنطون السهران للطوباوي اسطفان… وهلّق إخوتنا الحلوين أعلنّاهن طوباويين… ليونار وتوما واللي جايين عالطريق كتار كتار… هللويا تبقى صلبانك عليانة وكلّ ما الشرّ علينا طلّ نمحيه بقدّيس لبناني… لو مهما طال عتمك يا ليل علبنانّا جايي نهار…». هذه كلمات واحدة من الترانيم التي ستملأ أجواء ساحة كنيسة دير الصليب فرحاً في جل الديب مساء اليوم، من كتابة وتلحين الفنّان جهاد حدشيتي. أما الحدث، فيحلّ علينا بعد طول انتظار: احتفال تطويب الراهبين الكبوشيين اللبنانيين، الأب ليونار عويس ملكي والأب توما صالح.

التحضيرات للحدث المميّز بدأت منذ أكثر من سنة، حيث إن حفل التطويب تمّ تأجيله عاماً كاملاً بسبب جائحة كورونا. وقد ساهم فيها فريق عمل كبير ضمّ، إضافة إلى الرهبان الكبوشيين، عدداً من المتطوعين والعلمانيين الملتزمين. فبعد سهرة الصلاة مع العائلة الفرنسية يوم الأحد الماضي، والمسيرة على درب الطوباويين التي انطلقت من حديقة يسوع المخلّص في الشاليمار إلى دير مار أنطونيوس البادواني الثلاثاء الفائت، شهدت بعبدات ريسيتالاً دينياً أحيته جوقة مار أنطونيوس البادواني مساء الخميس الماضي كما سهرة روحية مساء البارحة… عشيّة التطويب.

 

قدّاس اليوم في باحة دير الصليب سيترأسه الكاردينال مارسيلو سيميرارو الساعة السادسة والنصف مساء. تفاصيل أكثر عنه وعن فعاليات يوم غد الأحد يرويها لـ»نداء الوطن» الرئيس العام للآباء الكبوشيين الأب عبدالله النفيلي.

 

التحضيرات لقدّاس السبت اكتملت

 

الصور تزيّن الباحات من منطقة الشاليمار – بعبدات وصولاً إلى كنيسة دير الصليب في جل الديب حيث سيُقام القدّاس الاحتفالي. عن ذلك يقول الأب النفيلي: «لقد بذلنا الكثير من الجهد كي نحدّد ونقرّر شكل الصورة الرسمية للطوباويين، كما طوّرنا أكثر من فكرة حتى وصلنا إلى النموذج النهائي المعتمد في المطبوعات والتذكارات، كذلك على الطرقات وفي ساحة الكنيسة وحتى داخل المزار الذي خُصّص لهما في كنيسة بعبدات». جوقة سيدة اللويزة، برئاسة الأب المريمي خليل رحمة، بدأت بدورها التدريبات منذ أكثر من عام أيضاً وهي ستشارك في عزف وتأدية ذخيرة التراتيل احتفالاً بالقدّاس الإلهي.

 

الذبيحة الإلهية، التي سيترأسها الكاردينال سيميرارو، ممثلاً البابا فرنسيس، وهو رئيس دعوى القدّيسين في روما، يشاركه فيها لفيف من الإكليروس ورجال الدين، وهم: رئيس الطائفة اللاتينية في لبنان، المطران سيزار إسايان، السفير البابوي في لبنان، المطران جيوزيب سبيتيري، والأب النفيلي. هذا إلى جانب سكرتير سينودس الأساقفة، الكاردينال ماريو غريك، والذي صادف وجوده في لبنان، والرئيس العام الكبوشي الأب روبيرتو جنوين، والمعني بتقديم دعوى التطويب في روما الأب كارلو كاللوني إضافة إلى نائبه الأب أنطوان حداد.

 

«الدعوة مفتوحة وندعو الجميع للمشاركة، فالحدث لا يتكرر دائماً»، كما يقول الأب النفيلي. وبالعودة إلى القدّاس الاحتفالي، سيُقام في الهواء الطلق في ساحة كنيسة دير الصليب في جل الديب التي تتّسع لخمسة آلاف شخص. أما بالنسبة إلى الحضور الرسمي، فقد وُجّهت دعوات إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. أما الدعوات الرسمية الأخرى، فلم يجرِ التأكيد عليها بعد. أضف إلى ذلك حضور رؤساء الطوائف، كما بطاركة وأساقفة وروحانيي كافة الطوائف المسيحية. في الساحة منطقة مخصّصة لرجال الدين والراهبات، وأخرى للسياسيين والحضور الرسمي وتضم نحو خمسين كرسياً. كذلك هناك منطقة خُصّصت لأهالي بعبدات فيما باقي الأماكن ستحتضن جميع المشاركين الآخرين. وتلفت مشاركة أهالي ماردين ومتحدّرين منها في الاحتفال من خلال وفد من داخل وخارج لبنان كون الشهيدين عاشا فيها وخدما أهلها.

 

الذبيحة الإلهية التي ستمتدّ حوالى الساعتين ستكون حسب الطقس اللاتيني لكن باللغة الفرنسية، اللغة التي يتقنها الكاردينال سيميرارو. أما القراءات (الإنجيل، الرسالة، التراتيل…)، فستكون باللغة العربية. مع العلم أن النقل التلفزيوني ستؤمّنه مباشرة قنوات Tele Lumiere، Charity TV، MTV وLBCI.

 

تقصد ساحة دير الصليب في جل الديب فترى التحضيرات شبه مكتملة من تحديد المقاعد إلى رفع الصورة الكبيرة التي تزيّن المذبح، كما أجهزة الصوت واليافطات المقدّمة من أهالي ماردين وبعبدات وسواهما. أما اللمسات الأخيرة، كترتيبات وضع الزهور مثلاً فتُركت لصباح اليوم.

 

برنامج يوم الأحد

 

انتقالاً إلى يوم الأحد، فهو سيشهد الاحتفال بقدّاس الشكر في كنيسة مار أنطونيوس البادواني في بعبدات عند الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، برئاسة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وهو قدّاس يُقام عادة لشكر الرب على نعمة التطويب. ويشرح الأب النفيلي: «سيستقبل غبطة البطريرك يوم الأحد في كنيسة مار جرجس الأثرية التي تعمّد فيها الأب توما وتثبّت فيها مع الأب ليونار، كل من رئيس البلدية والمطران والكهنة، حيث سيُلقى بعض الكلمات ويقدَّم للبطريك درع صُنع خصيصاً للمناسبة. ثم ينتقل بعدها إلى كنيسة مار أنطونيوس حيث يكون في استقباله مطران اللاتين والكهنة للاحتفال بقدّاس الشكر، وهو قدّاس ماروني باللغة العربية والدعوة مفتوحة للجميع أيضاً».

 

من ناحيتها ستقتصر الذخائر الموجودة على المذبح على الرسائل التي كان ينصّها الطوباويان كلّ بخطّ يده إلى روما، نظراً لغياب أي أثر لثيابهما أو جثمانيهما كما إحراق الأديرة التي تواجدا فيها بما تحتوي. والحال أن الذخائر ستوضع على المذبح بنسختها الأصلية، وستُنقل بعدها إلى دير مار أنطونيوس في بعبدات الذي سيكون مقصداً للمؤمنين والزائرين والمصلّين. كما سيجري الاحتفاظ ببعضها في الرئاسة العامة في روما حيث تُجمع جميع ذخائر قدّيسي وقدّيسات الرهبنة الكبوشية.

 

من يتجوّل في بعبدات يلاحظ حماساً إيمانياً واندفاعاً غير مسبوقين يتصاعد زخمهما مع اقتراب موعد التطويب، لا بل هو يشعر وكأنه على أبواب مهرجان احتفالي ديني عالمي. وليس من باب الصدفة أن يتزامن حدث التطويب الليلة مع عيد العنصرة، فتلك إشارة من السماء حين حلّ الروح القدس على تلاميذ السيّد المسيح.

 

أما من تواصلت معهم «نداء الوطن» من أفراد عائلتي الطوباويين، فالكلام كان أعجز من أن يعبّر عن فرحتهم.

 

أنا لست على الأرض… بل معه في السماء

 

العمّ نبيل ملكي، ابن أخ الأب ليونار، اعتبر أن الفرحة هي فرحة اللبنانيين جميعاً لا العائلة فقط، مضيفاً: «أنا مبسوط كتير كتير. هيدا أجمل نهار بحياتي وناطرو من زمان». الرجل الثمانيني تعرّف على قصة عمّه في عمر يناهز العشر سنوات من خلال والده الذي كان يروي له عن التحاق أخيه بالرهبنة وتعرّضه لأبشع أنواع الاضطهاد في تركيا قبل الاستشهاد.

 

ماذا أخبرك أيضاً عن طفولته؟ يقول: «كان يضلّ يقلّي إنّو ليونار كان ولد مهذّب ولذيذ كتير، وكان يشتغل بالأرض متلو متل كل أفراد العائلة». ويتابع أنه منذ فترة طويلة، حتى قبل بدء الحديث عن التطويب، كان يشعر أن للعائلة شفيعاً في السماء: «أنا مرقت بظرف صعب كتير ما بقدر إحكي عنّو، بس أنا أكيد إنّو ليونار عمل معي أعجوبة وقتها».

 

نحاول الاستفسار من العمّ نبيل عمّا إذا كان ثمة أثر ما متبقياً من طفولة أو ذكريات الأب ليونار، فيجيب: «كل شي عنّا إياه هوّي الصورة يلّي عطاها ليونار لوالدي، ووالدي عطاني إياها بدورو وهيّي بعدا معي. كل شي باقي قضت عليه الحرب». وهو قصد الصورة التي التُقطت للطوباوي خلال آخر زيارة له إلى بعبدات قبل رحلته الأخيرة إلى تركيا. أما عن فرحته قبيل حفل التطويب، فيصفها بصوت ونظرة يملأهما السلام: «عم تطلبي منّي شي مستحيل. ما عندي كلمات أوصف شعوري. أنا يمكن بالسما معو هلّق ومنّي عالأرض». العمّ نبيل يروي اليوم قصة ليونار لأولاده وأحفاده وأمله إكمال الرسالة على خطى الطوباوي من خلال التواضع في التعاطي مع من حوله، وطلب الشفاعة لهم. إلا أنه يعتبر نفسه «مش قدّ الرسالة». فالأخيرة كبيرة وعميقة جداً، على حدّ قوله.

 

حيث كَثُرت الخطيئة ازدادت النعم

 

ننتقل إلى السيّد فيليب صالح، المقيم الوحيد في لبنان وتحديداً في بعبدات من عائلة الطوباوي توما صالح. الأب توما هو عم والد فيليب، وقد وقع بالصدفة على اسمه إذ كان يُلقي نظرة على شجرة العائلة: «كنت في العشرين من عمري، حينها ظننت أنه أحد الملتحقين بالجيش الفرنسي أو الإنكليزي واستشهد في الحرب العالمية الأولى في تركيا. الغريب أن أعمامي ووالدي لم يذكروا اسم الطوباوي أمامي أبداً، ربما لأنه حين استشهد كان والدي وأخوته صغار السنّ». لكن منذ نحو عقد من الزمن، راح فيليب يطّلع أكثر على حياة الأب توما من خلال الأب سليم رزق الله، وهو من الذين عملوا بجهد على ملف التطويب.

 

البيت الذي وُلد فيه الأب توما ما زال موجوداً لكنه خضع لترميم بعد أن انتقلت ملكيّته لعائلة أخرى. كما أنه لم يبقَ شيء من أغراضه أو ما يشير إلى طفولته سوى أنه نشأ في كنف عائلة مسيحية تقيّة ومؤمنة. لماذا؟ «لأنه لم يكن بالحسبان أساساً أنه سيصبح في يوم من الأيام طوباوياً أو قدّيساً»، بحسب فيليب. غير أن العائلة تنعم لغاية اليوم بشفاعة الطوباوي من خلال ترابطها وتماسكها في ظلّ جوّ من القداسة، حيث إن معظم أفرادها يتعاطون الشأن الكنسي، كما يضيف.

 

نسأل فيليب عن شعوره قبل ساعات من حفل التطويب، فيجيب مبتسماً: «في البداية لم أستوعب ما يحصل كما أني لم أشعر برهبة الموقف تماماً حتى مطلع الأسبوع الجاري. فقد بتّ أنظر إلى صورة الأب توما نظرة مختلفة للغاية… أتأمّل في وجهه بكثير من التأثّر، لديّ شفيع قريب منّي وتربطني به صلة الدم». رغم أنّ الفكر البشري يختلف بأبعاده عن الفكر السماوي، إلا أن الأب توما يُعتبر اليوم، بنظر العائلة، الوسيط الذي سيتشفع لكلّ من يطلب شفاعته. فحدث التطويب مدّهم بجرعة إضافية عميقة من الإيمان: «للعائلة راهبة ومطران من جهة الوالدة وراهب كبوشي وراهبتان من جهة الوالد. مسؤولية الالتزام بحسن التصرّف متجذّرة بيننا لكن هذا التطويب جعلنا نعيد النظر أكثر بالمسار». ومستشهداً برسالة القدّيس بولس إلى أهل روما، ينهي فيليب كلامه: «حيث كَثُرت الخطيئة ازدادت النعم أكثر… فرغم الفساد المستشري في بلدنا إلا أن رصيد القدّيسين في تصاعد مستمرّ».

 

بعد بقعكفرا وحملايا وحردين وغزير، ستحجز بعبدات الليلة لها موقعاً على الخارطة الدينية اللبنانية المفعمة بالقداسة. فـ»الرب يرسل إلينا قدّيسيه ليشدّ عزيمتنا ويقوّينا ويعطينا مثالاً عن أبطال تحمّلوا الآلام حتى الاستشهاد، وهي علامة رجاء منه بأنه معنا ولن يفلت يدنا»، كما يختم الأب النفيلي.