IMLebanon

اقتصاد التسوّل: التقشّف يتكيّف مع الحرب

 

 

حتى الآن، ما زال ممكناً القول إنه لن يُسجّل عجز مالي كبير في نهاية السنة الجارية، إنما بالتأكيد سيظهر العجز في السنة المقبلة وسيتنامى سريعاً خلالها مع ارتفاع وتيرة الخسائر في الأصول والممتلكات وفي انكماش الاقتصاد. فالعدوان على لبنان بدأ في الفصل الأخير من السنة الجارية، أي بعدما كانت الإيرادات قد تحققت بنسبة 82%، فيما لم تلجأ الحكومة إلى التوسّع في الإنفاق رغم الحاجات الكبيرة المتصلة بالوضع الناشئ عن الحرب، ولا سيما الموجة الثانية من النزوح التي بدأت في نهاية أيلول الماضي وأسفرت عن انتقال نحو 1.2 مليون شخص من البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية إلى مناطق أخرى، فضلاً عن تعطّل النشاط الاقتصادي في هذه المناطق بشكل شبه كامل.

 

 

بحسب أرقام موازنة 2024، فإنّ الحكومة كانت تتوقع نفقات بقيمة 308 آلاف مليار ليرة (3.44 مليارات دولار)، ولم يسجّل في بند الإيرادات ما يزيد على هذا المبلغ. رغم ذلك، أنفقت الحكومة من خارج الموازنة نحو 14 ألف مليار ليرة بواسطة سلف الخزينة، أي ما يوازي 4.5% من مجمل قيمة النفقات المقدّرة. غالبية هذه السلف كانت مخصصة لتغذية بنود الرواتب والأجور المدرجة تحت مسميات مختلفة، ولم يكن من أصل هذه السلف أكثر من ألف و200 مليار ليرة مخصصة لتمويل برامج متعلقة بالنزوح مثل الإيواء ومساعدة الجرحى وتمويل كلفة العمليات الجراحية والقليل القليل من أعمال الإغاثة الأخرى.

وفي مشروع موازنة 2025، التي أقرّت وأحيلت إلى مجلس النواب ورد أن النفقات ستبلغ 427695 مليار ليرة (4.77 مليارات دولار)، مقابل إيرادات بقيمة 410128 مليارات ليرة (4.58 مليارات دولار)، أي إن العجز سيبلغ 17566 مليار ليرة (196 مليون دولار) أو ما يوازي 4.11%. أي إنه سيجري التوسّع في الإنفاق بما قيمته 1.33 مليار دولار وبزيادة نسبتها 38.7% مقارنة مع النفقات في موازنة 2024. وكانت غالبية التوسّع مرتبطة بالنفقات الجارية التي تعبّر بشكل أساسي عن الرواتب والأجور والتعويضات المختلفة، وليس عن عمليات الإغاثة والنزوح.

عملياً، طارت موازنة 2025، إذ لم يعد لها أي معنى في ظل العدوان على لبنان. فالسيناريو الذي أعدّت هذه الموازنة على أساسه، لم يعد قابلاً للتحقق ولم يعد واقعياً لأنه كان مبنياً على مسار للحرب محصور بقرى الحافة الأمامية في الجنوب حيث الخسائر كانت محدودة، وعلى استمرار للنشاط الاقتصادي بوتيرة معقولة نسبياً سواء في حركة الاستهلاك أو في حركة التحويلات والتدفقات الرأسمالية التي تغذّي النشاط الاقتصادي. بهذا المعنى، كانت القطاعات الاقتصادية تعمل بنسبة عالية وإن لم يكن نشاطها بالوتيرة المعتادة، إنما لم يكن الجمود والخسائر كما هما عليه الآن. وهذا يعني أن المكلفين بالضريبة كانوا يدفعون ما يتوجب عليهم للخزينة. فمن كان يحقق الأرباح كان يسدّد ضريبة الأرباح، ووتيرة تسديد رسوم الاستهلاك والاستيراد وضريبة القيمة المضافة متواصلة.

الآن الوضع مختلف بشكل جذري. فالاقتصاد سيسجّل انكماشاً كبيراً والقطاعات تعرّضت لضربات كبيرة، والتوقف عن العمل ألغى الكثير من النشاط في المناطق التي تتعرض للقصف الإسرائيلي. وبحسب مصدر في وزارة المال، فإنه حتى نهاية آب الماضي، كانت الإيرادات المحققة توازي 81.8% من الإيرادات المقدرة في موازنة 2024، إذ سجّل تحصيل 252 مليار ليرة من أصل تقديرات الموازنة البالغة 308 آلاف مليار ليرة. أما في الأشهر التالية، فلم تصدر أرقام نهائية عن الإيرادات، إنما هناك الكثير من المؤشرات التي تفيد بأن التراجع في أشهر أيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني لن يكون أقلّ من 50%. كما أنه على الضفّة المقابلة، أي في ما يتعلق بالنفقات، فإن النفقات المقدّرة في موازنة 2025 لم تعد كافية لتغطية الحاجات الناشئة بعد العدوان الإسرائيلي، لذا زادت سلف الخزينة التي تمنحها الحكومة لمختلف الإدارات والمؤسسات العامة لتمويل أمرين أساسيين: الزيادات على ما يسمّى مساعدات اجتماعية وتعويضات الرواتب والأجور، وزيادة وتيرة الضخّ المتعلق بتغطية أعمال الإغاثة والنزوح.

حتى نهاية آب الماضي كانت الإيرادات المحققة توازي 81.8% من الإيرادات المقدّرة في الموازنة

 

ووفقاً لتقديرات منظمة الأمم المتحدة الإنمائية UNDP، فإن الخسائر التي ستصيب المالية العامة يمكن قراءتها وفقاً لبُعدين: المدى المنظور، والمدى الأبعد. في المدى المنظور، «ستزداد هشاشة المالية العامة مع انخفاض الإيرادات بنسبة تقدّر بنحو 9.16% وازياد الحاجات التمويلية بنحو 30%». بمعنى أوضح، ستنخفض الإيرادات وستزيد النفقات، وبالتالي سيزداد العجز بنسبة 30% وستكون حصيلة النشاط الاقتصادي انكماشاً بنسبة 9.16%. هذه التوقعات تمتدّ حتى نهاية السنة الجارية، وهي ناجمة بشكل أساسي عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد والممتلكات. «الأضرار التي لحقت بالطرق كبيرة وتقطع حركة الاقتصاد والتجارة لأشهر ما بعد نهاية الحرب. الجسور والمطار، ومعامل الطاقة الكهربائية ما زالت بخطر. هذا ما سيؤدي إلى تباطؤ أكبر من المتوقع في تعافي الناتج المحلي الإجمالي في ما يتعلق بالإعمار الذي سيأخذ سنوات. مجموع الاستثمارات قد ينخفض بنسبة 6.3% في 2025، وبنسبة 6.3% في 2026، مع تراجع مماثل في الاستثمار الخاص بنسبة 6.6% في 2025 و6.7% في 2026» وفق UNDP. أيضاً تشير المنظمة إلى تدني «القدرة المؤسساتية على المستويات كافة. فالمؤسسات الوطنية والمناطقية في حالة انعدام القدرة أو متضررة كثيراً لضمان استجابة التعامل مع الأزمة، أو لتأمين الخدمات الأساسية، أو لإدارة النزوح. ومع اقتراب الشتاء، فإن التحديات الماثلة في الخدمات العامة سترتفع على المستوى الوطني». ومن نتائج هذا الأمر أن «دوامة الانحدار المالي والاقتصادي ستنعكس بشكل دراماتيكي على القدرة العملياتية وعلى الموارد البشرية أيضاً، مع القلق من الانتقال من انعدام الفعالية إلى انعدام القدرة للخدمات الأمنية الأساسية. وهذا ينطبق أيضاً على دور المؤسسات التي تعمل في الخطّ الأول للاستجابة بما فيها الدفاع المدني وسواها». وعلى صعيد قطاعي، فإن العدوان الاسرائيلي أصاب كل القطاعات، لذا تتوقع المنظمة «انخفاض الزراعة بنسبة 6.25%، وقطاع الطاقة والمياه يواجه تحديات تأمين الموارد، والصناعة قد تواجه انكماشاً بنسبة 3.87%، كما أن قطاع الإنشاءات سينكمش بنسبة 1.2%، وسيواجه قطاع النقل والاتصالات انخفاضاً بنسبة 12% مع انقطاعات أساسية، وسينخفض قطاع الخدمات بنسبة 8%، وستعاني التجارة من تراجع بنسبة 21.18% بسبب الصعوبات اللوجستية وإغلاق الحدود».

أما على المدى الأبعد، فإن «الإيرادات العامة قد تسجل انخفاضاً بنسبة 3.22% في 2025 و3.11% في 2026، ما سيحدّ من قدرة الحكومة على الإنفاق وتمويل الخدمات العامة والبرامج الاساسية. الحاجات التمويلية يتوقع أن تبقى مرتفعة بنسبة 21% من الناتج في 2025 وبنسبة 27.5% في 2026، ما يؤشّرإلى تنامي الاعتماد على الدين لتغطية فجوة التمويل الحكومية».

إذاً، الدين هو الملجأ الوحيد، برأي المنظمة، لتمويل العجز الناتج من تدني الإيرادات والزيادة في النفقات. لكن الواقع يشير إلى وجود خيار آخر، وهو أن الحكومة تحاول تعويض العجز عبر المساعدات الخارجية، وهو ما سيؤمن تغطية تمويلية بالعملة الأجنبية، أي إنه لن يؤدي إلى الضغط على سعر الصرف الذي جرى تثبيته في الأشهر الماضية ضمن هوامش عنوانها «استقرار سعر الصرف». سعر الليرة مقابل الدولار، كان مستقرّاً في الأشهر الماضية بسبب الآلية التي اعتمدها المسؤولون عن النموذج الاقتصادي في لبنان، والمبني على سحب السيولة بالليرة من السوق مقابل تأمينها لتسديد الضرائب في اقتصاد مدولر، أي إن كل مكلّف يحتاج إلى بيع دولاراته للحصول على ليرات يسدّد بها المتوجب عليه. هذه الآلية لا تبني اقتصاداً، بل تنشّط الحركة القائمة على الاستيراد المموّل بالتحويلات الخارجية التي تأتي إلى الأسر المقيمة في لبنان من المغتربين ومن المنظمات الدولية والمانحين الدوليين. الآن، القيّمون على النموذج، يحاولون تنشيط هذا الاقتصاد الذي تعرّض لخسائر ضخمة، عبر الهبات والمساعدات التي بلغت في مؤتمر باريس نحو مليار دولار. كما أن الحكومة لم تزد كثيراً من إنفاقها، بل تمسّكت بالتقشّف حتى في عزّ الحرب حتى لا تتوسع في الإنفاق ولا تسجّل أن العجز ازداد في أيامها. هي في الواقع، تحاول تغطية الخسائر المسجلة حالياً، بالمساعدات التي ستأتي لاحقاً. اقتصاد التسوّل يعمل بكفاءة كبيرة نظراً إلى الظروف الراهنة.