IMLebanon

بداية عودة الفعالية المسيحية

 

الانطباع العام الذي سبقَ اللقاء بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع كان يَنحو باتّجاه استبعاد انعقاده لسببَين مترابطين: تجَدّد الاشتباك العوني مع «المستقبل» من باب عرسال واستطراداً التعيينات، وتصعيد عون الحكومي وصولاً إلى اعتكافه في جلسة الغد.

توقيت زيارة جعجع لعون كان مفاجئاً، تماماً كما كان الإعلان عن انطلاق الحوار بينهما، وقد تزامنَ في التوقيت أيضاً مع الجولة التي يقوم بها الموفد البابوي الكاردينال دومينيك مومبرتي في محاولةٍ لإعادة تحريك الملف الرئاسي، وعشيّة الجلسة النيابية المخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية.

وإذا كان اللقاء لن يبدّلَ في موقف عون الرئاسي لجهة تمسّكِه بترشيحه، ولن يبدّل بموقفه من التعيينات وعرسال والحكومة، فما الهدف إذاً من التوقيت السياسي-الوطني الذي اختارَه جعجع؟

أوّلاً، التأكيد أن لا عودة إلى الوراء في العلاقة بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر»، وأنّه على رغم كلّ التطورات التي تستبعد حصولَ اللقاء أصَرّ جعجع على انعقاده.

ثانياً، التمييز بين الخلاف الوطني مع عون حول ملفّات وقضايا عدّة، وبين المشترَك الذي يجمعهما، وبالتالي الحِرص على حماية هذا المشترك وتطويره وتثميره.

ثالثاً، تَطمين الفاتيكان بأن لا شرذمة مسيحية في لبنان، وتحميل مومبرتي انطباعات إيجابية وتفاؤلية للبابا فرنسيس.

رابعاً، رسالة إلى المسيحيين اللبنانيين بأنّ وحدة الصف المسيحية التي شكّلت مطلباً مسيحياً تاريخياً بدأت بالتحقّق على أرض الواقع، وبالتالي إذا كان مجرّد الحوار شكّل ارتياحاً مسيحياً، فكيف بالحري سيكون الوضع بعد هذا اللقاء ومتمّماتِه الآتية.

خامساً، رسالة إلى المسيحيين المشرقيين بأنّ الوجود المسيحي في لبنان سيبقى الركيزة والمنطلق لإعادة انتشار المسيحية المشرقية التي تقلّصَت بفعل تطوّرات العقود الماضية، ولا سيّما السنوات الأخيرة.

سادساً، رسالة إلى الشرَكاء في الوطن بأنّ الخلاف في الخيارات الوطنية لا يعني إطلاقاً التفريط بالبُعد الميثاقي المتمثل بالشراكة المسيحية -الإسلامية وحسن التمثيل المسيحي.

سابعاً، التذكير بأنّ البعد السيادي الذي يشَكّل مطلباً مسيحياً أساسياً، لا يعني إهمالَ البعد التمثيلي الذي يجَسّد فلسفة التجربة اللبنانية التي قامت على فكرة الشراكة المسيحية-الإسلامية الفريدة من نوعها عالمياً، والتي لا يجب التفريط بها تحت عناوين حَداثوية وبَرّاقة الهدفُ منها ضرب الحضور المسيحي الفاعل في لبنان.

والمسيحيون في هذا المجال لا يَشذّون عن القاعدة المتّبعة من جانب «المستقبل» و«حزب الله» و«حركة أمل» والحزب «الاشتراكي»، حيث إنّ الأولويات الوطنية للقوى الإسلامية لم تجعلها تتخلّى يوماً أو تغضّ النظر عن البُعد التمثيلي، بل كلّ فريق من هؤلاء الفرَقاء يعمل على تعزيز حضوره التمثيلي من أجل دفعِ خياراته الوطنية قدُماً، وهذا عينُ الصواب، إلّا المسيحيين مطلوب منهم التخَلّي عن تمثيلهم بذريعةِ خيارات مدنية بعيدة عن الطوائفية في زمن صعود الإسلام السياسي السنّي والشيعي.

ومن هذا المنطلق فأهمّية لقاء جعجع-عون تَكمن في بُعدَين:

البُعد الأوّل يتّصل بالوثيقة التي صدرَت عن اللقاء واستغرقَ نقاشها أشهراً من البحث والتواصل، وهي تجسّد كلّ ثوابت المسيحيين التاريخية، وتشَكّل ترجمةً عملية أو متمّمة ومفسّرة للدستور اللبناني، إنْ على مستوى السيادة والاستقلال والحرّيات وبَسط سلطة الجيش اللبناني وحدَه على كامل الأرض اللبنانية، أو لناحية علاقة لبنان مع الخارج، أو لجهة دور لبنان وحُسن التمثيل السياسي لكلّ المجموعات اللبنانية.

فما اصطُلِح على تسميته بـ«إعلان النيّات» يُعبّر عن المفاهيم التي تناضل من أجلها «القوات»، ولكنّه في نفس الوقت يُعيد تقريبَ «التيار العوني» من هذه المفاهيم التي تمّ التخلي عنها مع توقيع وثيقة التفاهم مع «حزب الله»، ولا بل إنّ هذه الوثيقة تخدم في هذه اللحظة بالذات المصلحة العونية أكثر من القواتية لسبَب بسيط هو أنّ ما قيلَ تُجاهر به «القوات» يومياً، فيما تبنّيه من قبَل العماد عون يضعه في المساحة الوسطية الفعلية، ويعزّز فرَصَه الرئاسية، خصوصاً إذا ما عملَ على تطبيق هذه المبادئ والمجاهَرة بها، واللافت في هذا السياق أيضاً، والذي يجب أن يتوقف عنده عون مليّاً، هو ملاقاة الرئيس سعد الحريري الدكتور جعجع بدعوة عون إلى عدم السير باتّجاه شلّ الحكومة، وإعلانه إمكانية التفاهم معه، وبالتالي لا مصلحة لعون بالعودة إلى الوراء بعد اليوم.

والبُعد الثاني يتصل باللقاء بحدّ نفسه الذي أراد عبرَه جعجع تجاوز كلّ الخلافات الماضية والحاضرة، وكلّ الاعتبارات المتصلة باللحظة السياسية ومواقف عون الأخيرة وتحالفات كلّ منهما، وذلك في رسالة واضحة مفادُها تكريس الثنائية المسيحية العونية-القواتية، وأنّ رئيس «القوات» ماضٍ في هذا التوَجّه إلى النهاية بما يخدم المصلحة المسيحية واللبنانية.

فالمبادئ التي تمّ إعلانها تجعل من هذه الثنائية تتجاوز وحدةَ الصف إلى وحدة الموقف في القضايا الأساسية، وتبرّر لـ»القوات» تفاهمَها مع «التيار الحر» والعكس صحيح. وإذا كان هذا اللقاء مجرّد بداية، فلا يجب أن يستثيرَ حلفاء الطرَفين إذا كانوا حريصين على الحضور المسيحي في لبنان والذي لا يمكن تعزيزه وتثبيته وتحصينه بالشعارات الرنّانة والأدوار الوهمية التي لا تستند إلى الفعالية المسيحية.

فتَغييب هذه الفعالية في زمن الوصاية السورية هو الذي ضربَ الدورَ المسيحي، وبالتالي المعبَر لاستعادة الدور يكون من خلال إعادة الاعتبار لفعالية التمثيل السياسي المسيحي أسوةً بالتمثيل السياسي الإسلامي.

ولا يَعني هذا اللقاء إعادةَ خلط الاصطفافات الوطنية بين 8 و14 آذار، خصوصاً أنّ «إعلان النيّات» هو في صلب مبادئ 14 آذار، بل هو أوّل محاولة جدّية لإعادة تقريب عون من 14 من دون أن يكون في مواجهة مع 8 آذار.

وإذا كان هناك مَن يراهن على خسارة السنّة في المنطقة، فهو مخطئ، وذلك تماماً كالذي يراهن على خسارة الشيعة، وبالتالي في ظلّ التوازن السني-الشيعي لا بدّ من إعادة الوزن إلى الحضور المسيحي، وأوّل الطريق لقاء عون-جعجع.. فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة…