بعد انتخاب رئيس للجمهورية والتوصل الى توافق على قانون جديد للانتخابات، لوحظ ان البطريرك الماروني بشارة الراعي يركّز في عظاته على امرين اثنين، الاول التنديد بسلوك السياسيين، وبعدم اهتمام المسؤولين بقضايا الناس الحياتية الاجتماعية منها والاقتصادية والامنية والثاني، وهو يأخذ حيزاً مهما في عظاته، التحذير الشديد من نتائج النزوح السوري المليوني الى لبنان، معتبرا انه يشكل الخطر الاكبر على الكيان اللبناني وعلى تنوّعه وخصائص مكوناته الروحية.
انطلاقاً من موقف البطريرك الراعي هذا، لا بدّ من العودة قليلاً الى الوراء للتذكير، إن نفعت الذكرى، باللجوء الفلسطيني الى لبنان في العام 1948، والذي بدأ سلمياً وهادئاً، ولاتقاء آلة القتل الاسرائيلية، ولاحترام السلطات اللبنانية السياسية والامنية والقضاء، وانتهى اعتبارا من العام 1969 الى ثورة مسلحة، والاعتداء على اللبنانيين الآمنين وعلى القوى المسلحة اللبنانية وفق التدرّج الزمني الآتي:
في العام 1969 انطلقت تظاهرة مسلحة، اشترك فيها فلسطينيون ولبنانيون متعاطفون معهم من مخيمي صبرا وشاتيلا باتجاه كلية المقاصد، ومنها باتجاه ساحة الشهداء، مقتلعين بلاط الارصفة، والاشجار واشارات المرور، وعندما تدخلت قوى الامن توقف زحفهم بادلوها باطلاق الرصاص والرمي بالحجارة، وانتهت المعركة بالقرب من المقاصد بسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى من الجانبين.
في العام 1970، تدفّق على لبنان الوف المقاتلين الفلسطينيين الذين هربوا من الاردن بعدما اخمد الملك حسين ثورتهم ضد نظامه، حتى ان بعضهم لجأ الى اسرائيل هربا من الجيش الاردني، وفي العام 1970 ايضاً فتحت السلطات اللبنانية ابواب جهنم على لبنان عندما رضخت خانعة للضغوط العربية ووقعت مع منظمة التحرير الفلسطينية، ما سمي يومها باتفاق القاهرة، الذي سمح للفلسطينيين بمقاتلة اسرائيل انطلاقا من منطقة العرقوب اللبنانية، التي اطلق عليها دولياً اسم «فتح لاند».
في العام 1973 واستنادا الى اتفاقية القاهرة خرج المسلّحون الفلسطينيون من المخيمات، واخذوا يتجولون علنا بسلاحهم الخفيف والمتوسط في المناطق القريبة من المخيمات والبعيدة عنها، فأنذرهم الجيش اللبناني بعدم حمل السلاح خارج المخيمات فرفضوا ذلك واصطدموا مع الجيش في منطقة بئر حسن والمدينة الرياضية، وتدخل الطيران الحربي اللبناني لفك الحصار عن الجنود، ولكن كالعادة تدخلت الدول العربية لدى السلطات اللبنانية «لوقف قتل الفلسطينيين» وهو العذر الدائم الذي كان يستعمله العرب والفلسطينيون لحماية المسلّحين، وقد رضخ يومها رئيس الجمهورية سليمان فرنجية للضغوط العربية واعلن وقف القتال وسمح للفلسطينيين بحماية انفسهم والمخيمات.
في العام 1975 اندلعت الحرب بين الفلسطينيين الذين حوّلوا المخيمات الى ثكنات وسجون وعمليات تعذيب وقتل وخطف، وبين حزب الكتائب بداية قبل ان يعمد المسيحيون الى حماية عائلاتهم واراضيهم في المناطق القريبة من المخيمات مثل مخيم تل الزعتر، ومخيم جسر الباشا ومخيم ضبية، وتوسعت الحرب لتطول مناطق بعيدة بعد استعمال الاسلحة الثقيلة، وما حصل بعدها من تدخل عسكري سوري وقدوم آلاف المقاتلين من العراق وليبيا والصومال والسودان وغيرها من الدول، ولم تسكت المدافع الاّ بعد التوصل الى اتفاق لانهاء الحرب في مدينة الطائف السعودية عام 1989.
****
هذا التذكير السريع بمراحل الحرب اللبنانية التي كانت شرارتها الاولى، الانفلاش الفلسطيني المسلّح، وسكوت فريق كبير من اللبنانيين على هذا الانفلاش المدمّر، هو للتحذير بأن السكوت اليوم على الانفلاش السوري، الذي يفوق بمرات الانفلاش الفلسطيني هو «الخطر الاكبر على الكيان اللبناني»، وان المعالجة بالخضوع للضغوط الدولية والعربية كما حصل مع الفلسطينيين هي جريمة موصوفة يرتكبها المسؤولون ان هم اهملوا وتلكأوا وضعفوا امام الضغوط، خصوصا وان كارثة السلاح الفلسطيني ما تزال طريّة في الذاكرة، وماثلة في العيون، والتاريخ لا يرحم.