IMLebanon

إن نفعت الذكرى!

 

كان الرئيس الراحل الياس سركيس يقول في أيامه إن “الأمن قبل الرغيف”. لكنه لو بقي إلى اليوم لقَلَبَ الآية وقال “الرغيف قبل السلطة”..!

 

والتكثيف الاختصاري جعل من الأمن في المرحلة الممتدة من العام 1976 إلى العام 1982 أولوية لا تعلوها أي قضية أخرى، عدا عن البديهة القائلة بأن الاستقرار شرط واجب للاستثمار، وأن الشجاعة ترف قيمي لا يتلاءم تماماً مع عوالم الاقتصاد والمال والعمران الموصوفة (ظلماً!) بالجُبن!

 

وذلك التكثيف الاختصاري، يجعل راهناً من الرغيف عنواناً للوضعين الاقتصادي والمالي الشاملين.. وهذان في ظل تراجع الهمّ الأمني واندحاره إلى الخلف، صارا في دائرة الأولوية التي يُفترض أن لا تعلو عليها أي “قضية” أخرى.. أو هكذا تقول جهراً وهمساً المعطيات والأرقام والوقائع والحسابات العامة والخاصّة، والنخبوية والعادية، بل يمكن لأي لبناني أن يراها رؤى العين ويلمسها لمس اليد ويسمعها أينما حلّ وفي أي مقام أو صالون أو مقهى..

 

الياس سركيس في زمانه، كان رجل دولة نقياً متواضعاً وصاحب ضمير. قدماه على الأرض، وواقعيته فذّة.. جاء في التوقيت الغلط لكنه أعطى مثالاً يُحتذى ويُحترم في كل الأوقات.. واستحضاره اليوم لا يندرج في باب النكايات والمماحكات لكن من باب التذكير بمسؤولية رجل الدولة الذي يعرف في اللحظة المناسبة الفارق بين المهم والأهم، والدائم والعابر والمركزي والفرعي والرئيسي والهامشي.

 

وهذا قياس اعتمده الرئيس المنتخب الراحل بشير الجميل أيضاً في رحلته السريعة والصاعقة من قيادة ميليشيا عسكرية إلى قيادة دولة! ومن “رئاسة” مرحلة حرب إلى رئاسة مرحلة سلم! بحيث تمكّن في غضون أسبوعين اثنين أو أكثر قليلاً، من وضع برنامج أولويات يتلاءم تماماً مع الشأن العام وليس مع شأنه الخاص، ومع وقائع لبنان وليس مع أحلامه الشخصية! ومع خريطة الانقسام والتشظي المفتوحة على وسعها في بحر دموي وليس مع خريطة “المجلس الحربي” آنذاك!

 

بدا واقعياً وممكناً بشكل مفاجئ. ورأى أول ما رأى أن “الأولوية” عنده كرئيس دولة منتخب، هي العودة إلى هذه الدولة من بداياتها وأدواتها! والعودة إلى روحيتها التي لطالما أعمل الردح السلبي فيها سابقاً.. قرّر بسرعة أن الـ10452 كيلومتراً مربعاً هي لبنان وليس أقل من ذلك! وإن مدّ الجسور فوراً مع الطرف الآخر أولوية لا يُجادلها عاقل! وهذان أمران تبيّن لاحقاً ومن بعده، كم كانا عصيين ومتمكنين في الذهنيات التي بلورتها الحرب عند الجميع تقريباً، وفي الصف المسيحي خصوصاً!

 

تصرف كرجل دولة! وصاحب مسؤولية أولى! وخرج بسرعة من حال إلى نقيضها: الدولة وليس الحزب. والمؤسسات وليس العائلة. والجيش وليس الميليشيا. والجمهورية وليس الكيان. والوحدة وليس التقسيم.. بل قدّم فرائض الاحترام لـ”شهداء” أعدائه وأخصامه بالقدر الذي قدّمه لـ”شهداء” حزبه وطائفته.. فعل ذلك لأنه عرف “مسؤولياته الوطنية العامة” ورصف أولوياته تبعاً لتلك المعرفة.

 

.. ذكّر إن نفعت الذكرى!